للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الشدة على المنافقين وإحراق مسجد الضرار]

من يومئذ بدأ محمد يشتدّ في معاملة المنافقين شدّة لم يألفوها من قبل، ذلك أن عدد المسلمين زاد زيادة تجعل عبث المنافقين بهم خطرا يخشى منه ويجب تلافيه وعلاجه. ولم يقم بنفس محمد ريب، بعد أن وعده ربّه لينصرنّ دينه وليعلينّ كلمته في أنهم سيزدادون من بعد أضعاف زيادتهم اليوم، وعند ذلك يصبح المنافقون خطرا عظيما. ولقد كان له من قبل، حين كان الإسلام محصورا بالمدينة وما حولها أن يشرف بنفسه على ما يجري بين المسلمين. أمّا وقد انتشر الدين في أنحاء بلاد العرب جميعا، وهاهو ذا يشارف الانتقال منها فكلّ تهاون مع المنافقين شرّ تخشى مغبته، وخطر ما أسرع ما يستشري إذا لم تجتثّ جرثومته. بنى جماعة مسجدا بذي أوان، بينه وبين المدينة نحو ساعة؛ وإلى هذا المسجد كان يأوي جماعة من المنافقين يحاولون أن يحرّفوا كلام الله عن مواضعه. وأن يفرّقوا بذلك بين المؤمنين ضرارا وكفرا. وطلبت هذه الجماعة إلى النبيّ أن يفتتح المسجد بالصلاة فيه. وكان طلبهم هذا قبل تبوك، فاستمهلهم حتى يعود. فلما عاد وعرف أمر المسجد وحقيقة ما قصد إليه من إقامته أمر بإحراقه، فضرب بذلك مثلا ارتعدت له فرائض المنافقين فخافوا وانزووا، ولم يبق لهم من يحميهم إلا عبد الله بن أبي شيخهم وقائدهم.

على أن عبد الله لم يعمّر بعد تبوك غير شهرين مرض إثرهما ومات. ومع أن الحقد على المسلمين قد كان يأكل قلبه منذ نزل النبيّ المدينة؛ فقد آثر محمد ألا ينال المسلمون ابن أبيّ بسوء. ولم يلبث النبيّ حين دعي للصلاة عليه لمّا مات أن صلى وقام على قبره إلى أن دفن وفرغ منه. وبموته انهار ركن المنافقين. وآثر من بقي منهم أن يخلص لله توبته.

[تبوك خاتمة الغزوات]

بغزوة تبوك تمّت كلمة ربك في شبه الجزيرة كلها، وأمن محمد كلّ عادية عليها، وأقبل سائر أهلها وفودا عليه يقدمون الطاعة ويعلنون لله الإسلام.

[غبطة النبي بإبراهيم]

ولقد كانت هذه الغزوة خاتمة غزوات النبيّ عليه السلام ومن بعدها أقام محمد بالمدينة مغتبطا بما أفاء الله عليه. وكان ابنه إبراهيم قرّة عينه له ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا، فكان إذا فرغ من استقباله الوفود، ومن القيام بأمر المسلمين، ومن أداء حق الله ورسالته وحق أهله جميعا لهم، اطمأنت نفسه برؤية هذا الطفل الذي ظل يترعرع وينمو ويزداد شبهه بمحمد وضوحا مما يزيد أباه له حبّا وبه تعلقا. وخلال هذه الأشهر جميعا كانت حاضنته أم سيف ترضعه وتسقيه لبن الماعز التي أهداها النبي إليها.

ولم يكن تعلّق محمد بإبراهيم لغاية في نفسه لها اتصال برسالته أو بمن يخلفه؛ فقد كان عليه السلام في إيمانه بالله وبرسالته لا يفكر في ولده ولا فيمن يرثه، بل كان يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» . إنما هي العاطفة الإنسانية في أسمى معانيها؛ العاطفة الإنسانية التي بلغت من السمو في نفس محمد ما لم تبلغه في نفس أحد غيره؛ العاطفة الإنسانية التي جعلت العربي يرى فيمن يخلفه من الذّكران صورة من صور الخلود- هذه العاطفة التي جعلت محمدا يخلع على إبراهيم كل هذا الحب؛ ويرمقه من العطف بما لا عطف بعده. ولقد زاد هذه العاطفة رقّة وقوة في نفسه أن فقد ولديه القاسم والطاهر وهما ما يزالان طفلين في

<<  <   >  >>