ومما زاده انصرافا إلى التفكير والتأمل اشتغاله برعي الغنم سني صباه تلك فقد كان يرعى غنم أهله، ويرعى غنم أهل مكة، وكان يذكر رعيه إياها مغتبطا. وكان يقول:«ما بعث الله نبيّا إلا راعي غنم» ...
ويقول:«بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد» .
وراعي الغنم الذكيّ القلب يجد في فسحة الجوّ الطلق أثناء النهار وفي تلألؤ النجوم إذا جنّ الليل موضعا لتفكيره وتأمله يسبح منه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما وراءها، ويلتمس في مختلف مظاهر الطبيعة تفسيرا لهذا الكون وخلقه؛ وهو يرى نفسه، ما دام ذكيّ الفؤاد عليم القلب، بعض هذا الكون غير منفصل عنه.
أليس هو يتنفّس هواءه ولو لم يتنفسّه قضى! أليست تحييه أشعّة الشمس ويغمرها ضياء القمر ويتّصل وجوده بالأفلاك والعوالم جميعا. هذه الأفلاك والعوالم التي يرى في فسحة الكون أمامه، متصلا بعضها ببعض في نظام محكم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النّهار!! وإذا كان نظام هذا القطيع من الغنم أمام محمد يقتضي انتباهه ويقظته حتى لا يعدو الذئب على شاة منها، وحتى لا تضلّ إحداها في مهامه البادية، فأيّ انتباه وأية قوّة تحفظ على نظام العالم كلّ إحكامه! وهذا التفكير والتأمل من شأنهما صرف صاحبهما عن التفكير في شهوات الإنسان الدّنيا والسمّو به عنها بما يبديان له من كاذب زخرفها. لذلك ارتفع محمد في أعماله وتصرفاته عن كل ما يمسّ هذا الاسم الذي أطلق عليه بمكة وبقي له:«الأمين» .
يدلّ على ذلك كله ما حدّث هو عنه، من أنه كان يرعى الغنم مع زميل له، فحدّثته نفسه يوما أن يلهو كما يلهو الشباب، فأفضى إلى زميله هذا ذات مساء أنه يودّ أن يهبط مكة، يلهو بها لهو الشباب في جنح الليل، وطلب لذلك إليه أن يقوم على حراسة أغنامه. لكنه ما إن بلغ أعلى مكة حتى استرعى انتباهه عرس زواج وقف عنده، ثم ما لبث أن نام. ونزل مكة ليلة أخرى لهذه الغاية، فامتلأت آذانه بأصوات موسيقية بارعة كأنما هي موسيقى السماء، فجلس يستمع ثم نام حتى أصبح. وماذا عسى أن تفعل مغريات مكة بقلب مهذّب ونفس كلها تفكير وتأمل! ماذا عسى أن تكون هذه المغريات التي وصفنا والتي لا يستريح إليها من يكون دون محمد سمّوا بمراحل كثيرة! لذلك أقام بعيدا عن النقص، لا يجد لذّة يذوقها أطيب لنفسه من لذة التفكير والتأمل.
[حياة التفكير والتأمل]
وحياة التفكير والتأمل وما يستريح إليه من عمل بسيط كرعي الغنم، ليست بالحياة التي تدرّ على صاحبها أخلاف الرزق أو تفتح أمامه أبواب اليسار. وما كان محمد يهتم لذلك أو يعنى به، وقد ظلّ طول حياته أشدّ الناس زهدا في المادة ورغبة عنها. وما إقباله عليها وقد كان الزهد بعض طبعه؟! وكان لا يحتاج من الحياة إلى أكثر مما يقيم صلبه! أليس هو الذي عرف عنه كلّ حياته حرصه على شظف العيش ودعوة الناس إلى الاستمتاع بخشونة الحياة؟ والذين يتوقون إلى المال ويلهثون في طلبه إنما يبتغونه لإرضاء شهوات لم يعرف محمد طوال حياته شيئا منها. واللذّة النفسيّة الكبرى، لذة الاستمتاع بما في الكون من جمال ومن دعوة إلى التأمل، هذه اللذّة العظيمة التي لا يعرفها إلا الأقلون، والتي كانت لذة محمد منذ نشأته ومنذ أرته الحياة في نعومة أظفاره ذكريات بقيت مطبوعة في نفسه داعية إلى الزهد في الحياة، وأولاها موت أبيه وهو ما يزال جنينا، ثم موت أمه، ثم موت جدّه- هذه اللذة ليست في حاجة إلى ثروة من المال وإن تكن في حاجة إلى ثروة نفسية طائلة يعرف الإنسان معها كيف يعكف على نفسه ويعيش بها وفي دخيلتها. ولو أن محمدا ترك وشأنه يومئذ لما نازعته نفسه إلى شيء من المال، ولظلّ سعيدا بهذا الحال، حال الرّعاة المفكرين الذين ينتظمون الكون في أنفسهم، والذين يحتويهم الكون في حبّة قلبه.