فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شرّ من الأولى» . حدّث أبو مويهبة أن النبيّ قال له أوّل ما بلغنا بقيع الغرقد:«إني أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي» . فلمّا استغفر لهم وآن له أن يؤوب، أقبل على أبي مويهبة فقال له:«يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلود فيها ثم الجنة، فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة» . قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة. قال محمد:«لا والله يا أبا مويهبة! لقد اخترت لقاء ربي والجنّة» .
تحدّث أبو مويهبة بما رأى وما سمع؛ لأنّ النبيّ بدأ يشكو المرض غداة تلك الليلة التي زار فيها البقيع، فاشتد خوف الناس ولم يتحرّك جيش أسامة. صحيح أن هذا الحديث الذي يروى عن أبي مويهبة يلقاه بعض المؤرخين بشيء من الشك، ويذكرون أن مرض محمد لم يكن وحده هو الذي حال دون تحرّك الجيش إلى فلسطين، وأن تذمّر الكثيرين من تعيين حدث كأسامة على رأس جيش يضم جلّة المهاجرين الأوّلين والأنصار، كان أكبر من مرض محمد في عدم تحرّك الجيش أثرا. وقد اعتمد هؤلاء المؤرخون في تدوين رأيهم هذا على وقائع يتلوها القارئ في هذا الفصل. وإذا كنا لا نناقش أصحاب هذا الرأي رأيهم في تفاصيل هذا الذي روى أبو مويهبة، فإننا لا نرى مسوّغا لإنكار الحادث من أساسه، وإنكار ذهاب النبيّ إلى بقيع الغرقد واستغفاره لأهل المقابر من ساكنيه ودقة إدراكه اقتراب ساعته، ساعة، ساعة الدنو من جوار الله. فالعلم لا ينكر في عصرنا الحاضر مناجاة الأرواح على أنها بعض المظاهر النفسية.) Psychique (ودقّة الإدراك لدنوّ الأجل يؤتاها الكثيرون حتى ليستطيع أي إنسان أن يقص مما عرف من وقائع ذلك شيئا غير قليل. ثم إن هذه الصلة بين الأحياء والموتى، وهذه الوحدة بين الماضي والمستقبل، وحدة لا يحدّها زمان ولا مكان، قد أصبحت مقررة اليوم وإن كنا بطبيعة تكويننا نقصر عن استجلاء صورتها. فإذا كان ذلك بعض ما نرى اليوم وبعض ما يقرّه العلم، فلا محلّ لإنكار هذا الحادث الذي روى أبو مويهبة من أسامه، ولا محل لهذا الإنكار بعد الذي ثبت من اتصال محمد النفسيّ والرّوحيّ بعوالم الكون اتصالا يجعله يدرك من أمره أضعاف ما يدرك الموهوبون في هذه الناحية.
[يداعب عائشة على رغم مرضه]
وأصبح محمد في الغداة ومرّ بعائشة، فوجدها تشكو صداعا في رأسها وتقول: وا رأساه. فقال لها وقد بدأ يحسّ ألم المرض: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه. لكن شكوه لم يكن قد اشتدّ إلى الحدّ الذي يلزمه الفراش، أو يحول بينه وبين ما عوّد أهله وأزواجه من تلطّف ومفاكهة. وكرّرت عائشة الشكوى من صداعها حين سمعته يشكو؛ فقال لها وما ضرّك لو متّ قبلي فقمت عليك وكفنتك وصلّيت عليك ودفنتك! وأثارت هذه الدّعابة غيرة الأنوثة في نفس عائشة الشابة كما أثارت عندها حبّ الحياة والحرص عليها، فأجابت:
«ليكن ذلك حظّ غيري. والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك» . وتبسّم النبيّ وإن لم يمكّنه الألم من متابعة الدعابة، فلمّا سكن عن الألم بعض الشيء قام يطوف بأزواجه كما عوّدهن. لكن الألم جعل يعاوده وتزداد به شدّته، حتى إذا كان في بيت ميمونة لم يطق مغالبته، ورأى نفسه في حاجة إلى التمريض. هنالك دعا نساءه إليه في بيت ميمونة واستأذنهنّ، بعد أن رأين حاله، أن يمرّض في بيت عائشة. وأذن له أزواجه في الانتقال؛ فخرج عاصبا رأسه، يعتمد في مسيرته على عليّ بن أبي طالب وعلى عمه العباس، وقدماه لا تكادان تحملانه حتى دخل بيت عائشة.