وكانت منازل أهل مكة تحيط بدارة الكعبة، تقترب منها أو تبتعد عنها تبعا لما لكل أسرة وفخذ من جلال خطر وجليل مقام؛ فكان القرشيون أقربهم إليها دارا وأكثرهم بها اتصالا، كما كانت لهم سدانتها وسقاية زمزم وكل ألقاب التشريف الوثنية التي قامت في سبيلها حروب، وانعقدت من أجلها أحلاف، ووضعت من أجلها بين القبائل معاهدات صلح كانت تحفظ في الكعبة تسجيلا لها، وإشهادا لآلهتهم على ما فيها حتى تنزل غضبها بمن يخلّ بتعهداتها. وفيما وراء منازل قريش كانت تجيء منازل القبائل التي تليها في الخطر، ثم تلى هذه منازل من دونهم، حتى تكون منازل العبيد والخلعاء المستهترين. وكان النصارى واليهود بمكة عبيدا، كما قدّمنا، فكان مقامهم بهذه المنازل البعيدة عن الكعبة المتاخمة للصحراء؛ ولذلك كان ما يتحدثون به من قصص دينية عن النصرانية واليهودية بعيدا عن أن يتصل بسمع أمجاد قريش وأشراف أهل البلد الحرام. وأتاح لهم بعده أن يصموا دونه آذانهم؛ كما جعله بحيث لا يشغل بالهم، وهم قد كانوا يسمعون مثله أثناء رحلاتهم كلما مرّوا بدير من الأديار أو صومعة من الصوامع.
على أن ما بدأ يقال يومئذ عن نبيّ يظهر بين العرب قد أخذ يقضّ بعض المضاجع. ولقد عتب أبو سفيان يوما على أمية بن أبي الصّلت كثرة تكريره لما يذكره الرهبان من هذا الأمر. وربما كان من حق أبي سفيان يومئذ أن يقول لصاحبه: إن هؤلاء الرهبان إنما يتحدثون من ذلك بما يتحدثون لأنهم في جهل من أمر دينهم، فهم في حاجة إلى نبيّ يدلّهم عليه؛ أما ونحن نتخذ الأصنام ليقرّبونا إلى الله زلفى فلا حاجة بنا إلى شيء من هذا؛ ويجب علينا أن نحارب كل حديث من مثله. كان من حقه أن يقول هذا؛ لأنه في تعصّبه لمكة ووثنيّتها لم يكن يقدّر أن ساعة الهدى بالباب، وأن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام اقتربت، وأن من بلاد العرب الوثنيّة المتدابرة سيضيء العالم كله نور التوحيد وكلمة الحق.
[عبد الله بن عبد المطلب]
وكان عبد الله بن عبد المطلب فتى وسيما جميل الطلعة. وكانت أوانس مكة ونساؤها معجبات لذلك به.
وزادهن به إعجابا حديث الفداء والمائة من الإبل التي لم يرض هبل بما دونها فداء له، لكن القدر كان قد أعدّ عبد الله لأكرم أبوّة عرفها التاريخ، وأعدّ آمنة بنت وهب لتكون أمّا لابن عبد الله؛ لذلك تزوّجها ولم تك إلا أشهر بعد زواجه منها حتى مات، لم ينجه من الموت فداء أيّا كان نوعه. وبقيت آمنة من بعد لتلد محمدا ولتموت وما يزال طفلا.
ونضع أمام نظر القارئ على الصفحة التالية شجرة النسب النبوي مبيّنا عليها أقرب التواريخ لميلاد أصحابها.