للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العرفان بالله عرفانا كلما ازداد زادنا إيمانا به جلّ شأنه. وهي ترمي إلى حسن العرفان من جانب الجماعة كلها لا من جانب الفرد وحده. فالكمال الروحي ليس مسألة فردية صرفة، فلا مجلّ لأن يعنّى الناس أنفسهم جماعة بها، بل هو أساس الحضارة للجماعة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها. وواجب لذلك على الإنسانية أن تدأب في سبيل هذا الكمال الروحي أكثر من دأبها للوقوف على حقيقة المحسوسات، وأن تجعل من معرفة أسرار الأشياء وسنن الكون وسيلتها إلى هذا الكمال أكثر مما تجعل من هذه المعرفة وسيلة للسلطان المادّي على الأشياء.

[الاستعانة بالله للاهتداء إلى سنة الكون]

ليس يكفي لبلوغ هذه المرتبة من الكمال الروحي أن نستعين بمنطقنا وحده، بل يجب أن نمهد لقلوبنا وعقولنا سبيل الوصول إلى أسمى ما نستطيع الوصول إليه من هذا المنطق. وإنما يكون ذلك بالتماس العون من الله واتجاه الإنسان إليه تعالى بقلبه وروحه، إيّاه بعبد، وإيّاه يستعين، للاهتداء إلى أسرار الكون وسنن الحياة. وهذا هو الاتصال بالله شكرا لله على نعمته، ليزيدنا اهتداء إلى ما لم نهتد إليه. قال تعالى: (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) «١» .. وقال جل شأنه: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) «٢» .

[الصلاة]

الصلاة هي هذا الإتصال بالله إيمانا به وإلتماسا للعون منه. وليس القصد منها حركات الركوع والسجود، وتلاوة ما يتلى من القرآن، أو تلاوة التكبير والتعظيم لله جل شأنه، دون أن تمتلئ النفس إيمانا به والقلب تقديسا له والفؤاد سموّا إليه، وإنما القصد منها، ومما فيها من تكبير وتلاوة وركوع وسجود إلى هذا السموّ والتقديس والإيمان، وإلى عبادته عبادة خالصة لوجهه نور السموات والأرض. يقول تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) «٣» .

فالمؤمن الصادق الإيمان هو من يتوجّه بقلبه إلى الله ساعة الصلاة، يشهده على تقواه ويستعينه على أداء واجب الحياة، ويستمدّ منه هدايته، ويستلهمه توفيقه لإدراك سرّ الكون وسننه ونظامه.

والمؤمن الصادق الإيمان بالله يشعر بنفسه أثناء صلاته، ويشعر بها دائما شيئا ضيئلا أمام عظمة الله العليّ الكبير. إننا إذ نرتفع في طائرة من الطائرات ألفا أو بضعة آلاف من الأمتار، نرى الجبال والأنهار والمدن مظاهر صغيرة على هذه الأرض، ونراها ترتسي أمام باصرتنا وكأنها خطوط مرسومة على خريطة من الورق، وكأنها قد تساوي سطحها فلا ارتفاع لجبل ولا لبناء، ولا انخفاض لبئر ولا لنهر. ولا شيء أكثر من ألوان تتوالى وتتمازج وتزداد تمازجا كلما ازددنا نحن ارتفاعا. وأرضنا كلها ليست إلا كوكبا صغيرا في عالم ألوف الأفلاك والكواكب، وليست إلا كمّا ضئيلا جدّا في لا نهاية هذا الوجود. فما أصغرنا وما أضعفنا شأنا أمام بارئ هذا الوجود ومدبّره جلت عن أفهامنا عظمته! وما أجدرنا، ونحن نتوجّه بقلوب خالصة إلى جلال قدسه الأسمى نلتمس منه


(١) سورة البقرة آية ١٨٦.
(٢) سورة البقرة ايتا ٤٥، ٤٦.
(٣) سورة البقرة آية ١٧٧.

<<  <   >  >>