للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يسير عليك وقد داخلك الروع أن تقدر ما كان يتولى قريشا والمترفين منها خاصّة، إذ كانوا يستمعون إلى هذا القول بعد إذ كانوا من قبل ما ينذرهم به من العذاب بنجوة في حمى آلهتهم وأوثانهم. ويسير بعد ذلك أن تقدّر مبلغ حماستهم في تكذيب محمد ومناوأته والتأليب عليه. فهم لم يكونوا يعرفون البعث، ولم يكونوا يعترفون بما يسمعونه عنه. لم يكن أحدهم ليتوهم أنه مجزيّ عن عمل هذه الحياة بعد مفارقته الحياة. إنما كان خوفهم من المستقبل في هذه الحياة. كان خوفهم من المرض ومن الإصابة في الأموال والبنين وفي المكانة والجاه.

كانت الحياة عندهم غاية الحياة، فكان كلّ همهم منصرفا لجمع أسباب الاستمتاع فيها ودفع كل ما يخشونه منها. وإذا كان المستقبل غيبا محجوبا أمامهم. وكانت نفوسهم تحسّ أن أعمالهم شرّا قد يصيبهم الغيب من أجله بأذى، فقد كانوا يتفاءلون ويتطيّرون: كانوا يستقسمون بالقداح، ويضربون بالحصى، ويزجرون الطير «١» ، وينحرون للأوثان؛ كل ذلك يدّرعون به مما يخافون من هذا المستقبل القريب في الحياة. أمّا الجزاء بعد الموت، أمّا البعث والنشور يوم ينفخ في الصور، أما الجنة التي أعدّت للمتقين وجهنم التي أعدّت للظالمين، أما ذلك كله فلم يكن يدور بخواطرهم، وذلك كله قد سمعوا به في دين اليهود وفي دين النصارى، ولكنهم لم يسمعوا عنه تصويرا قويّا مخوفا كالذي يسمعهم الوحي على لسان محمد، والذي ينذرهم، إن هم ظلّوا فيما هم فيه من لهو الحياة أو الاستكثار من المال بظلم الضعيف وأكل مال اليتيم وإهمال المسكين والغلو في الرّبا، بعذاب خالد في درك سقر تصطك القلوب فزعا من هوله لمجرّد سماع صورته، ما بالك به محققا تراه البصيرة جاثما وراء الخطوة الضيّقة التي يتخطى الإنسان من جانب الحياة إلى ناحية الموت، بعده البعث والنشور، والرضا أو الثبور!.

[قريش والجنة]

أمّا ما وعد الله المتقين من جنة عرضها السموات والأرض لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، فكانت قريش في ريب منها. وكان يزيدها ريبا تعلقها بالعاجلة، وحرصها على أن ترى هذا النعيم محققا لها في حياة هذا العالم، وضيقها بالانتظار إلى يوم الجزاء، على حين لم تكن هي تؤمن بيوم الجزاء.

[معركة الخير والشر]

ولقد يأخذ الإنسان العجب كيف أقفلت قلوب العرب دون تصوّر «النرقانا» الحياة الآخرى والجزاء فيها، في حين تدور رحى المعركة بين الخير والشرّ في هذا العالم الإنساني منذ الأزل، لم تعرف يوما هوادة ولا اطمأنت إلى سكينة. كان المصريون القدماء، قبل ألوف السنين من بعث محمد، يزودّون الميت زاد الدار الآخرة، ويضعون في أكفانه كتاب الموتى بما فيه من أغنيات ونذر، ويصوّرون على معابدهم صور الميزان والحساب والتوبة والعقاب. وكان الهنود يصورون رضا النفس الراضية في «النرقانا» . ولم يكن مجوس فارس لينكروا معركة الخير والشر وآلهة الظلمة والنور. والموسوية والعيسوية تصفان حياة الخلد ورضا الله وغضبه. أفلم يبلغ هؤلاء العرب شيء من ذلك كله، وقد كانوا أهل تجارة يتّصلون في رحلاتهم وأسفارهم بأهل هذه النحل جميعا؟! فكيف لا يبلغهم؟ وكيف لا تكون لهم صورة خاصّة منه وهم أهل بادية أشدّ اتصالا باللّانهاية، وأقرب إلى تصوّر ما يشتمل عليه هذا الوجود من أرواح تتبدّى في لهب الظهيرة وفي غسق الليل؟! أرواح خيرة وأخرى شرّيرة! أرواح هي التي يحسبونها تسكن جوف الأصنام التي تقرّبهم إلى الله زلفى. لا ريب أنه كانت


(١) زجر الطير: أن يرمي الإنسان الطائر بحصاة أو أن يصيح به؛ فإن ولاه في طيرانه ميامنه تفاءل به، وإن ولاه مياسره تطير منه.

<<  <   >  >>