وحرية البحث ابتغاء الحقيقة. وقد شعرت بأن عليّ واجبا أقوم به في هذا الموضوع لإفساد الغاية التي ترمي هذه الخطة إليها، والتي تضر الإنسانية كلها ولا يقف ضررها عند الإسلام والشرق. وأيّ أذى يصيب الإنسانية أكبر من العقم والجمود يصيبان نصفها الأكبر والأعرق في الحضارة على حقب التاريخ! ولذلك فكرت في هذا وأطلت التفكير، وهداني تفكيري آخر الأمر إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية وهدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين من المسلمين من الناحية الآخرى، على أن تكون دراسة علمية على الطريقة الغربية الحديثة، خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده.
بدأت أراجع تاريخ محمد، وأعيد النظر في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد ومغازي الواقدي، وعدت إلى كتاب سيد أمير على (روح الإسلام) ، ثم حرصت على أن أقرأ ما كتب بعض المستشرقين، فقرأت كتاب درمنجم وكتاب وشنطن إرفنج، ثم انتهزت فرصة وجودي بالأقصر في شتاء سنة ١٩٣٢ وبدأت أكتب. ولقد تردّدت يومئذ في أن أجعل البحث الذي أطالع قرّائي به من وضعي أتى خيفة ما قد يقوم به أنصار الجمود والمؤمنون بالخرافات من ضجة تفسد عليّ ما أريد. لكن ما لقيت من إقبال وتشجيع من طائفة شيوخ المعاهد، وما أبدى لي بعضهم من ملاحظات تدلّ على العناية بالبحث الذي أقوم به، جعلني أفكر تفكيرا جدّيا في إنفاذ ما اعتزمت من كتابة حياة محمد على الطريقة العلمية الصحيحة كتابة مفصّلة، ودعاني إلى التفكير في أمثل الوسائل لتمحيص السيرة تمحيصا علميّا جهد ما أستطيع.
[القرآن أصدق مرجع]
ولقد تبّينت أن أصدق مرجع للسيرة إنما هو القرآن الكريم فإن فيه إشارة إلى كل حادث من حياة النبيّ العربي يتخذها الباحث منارا يهتدي به في بحثه، ويمحص على ضيائه ما ورد في كتب السنّة وما جاء في كتب السيرة المختلفة. وأردت جاهدا أن أقف على ما ورد في القرآن متصلا بحياة النبي، فإذا معونة صادقة في هذا الباب يقدّمها إليّ الأستاذ أحمد لطفي السيّد الموظف بدار الكتب المصرية، هي مجموعة وافية مبوّبة لآيات القرآن المتصلة بحياة من أوحى الكتاب الكريم إليه. وأخذت أدقق في هذه الآيات، فرأيت أن لا بدّ من الوقوف على أسباب نزولها وأوقات هذا النزول ومناسباته. وأعترف بأني، على ما بذلت في ذلك من جهد، لم أوفق لكل ما أردت منه. فكتب التفسير تشير أحيانا إليه وتهمل هذه الإشارة في أكثر الأحايين. ثم إن كتاب «أسباب النزول» للواحدي، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» لإبن سلامة، إنما تناولا هذا الموضوع الجليل الجدير بكل تدقيق واستيفاء تناولا موجزا. على أنني وقفت فيهما وفيما رجعت إليه من كتب التفسير على مسائل عدّة استطعت أن أمحص بها ما ورد في كتب السيرة، ووجدت فيهما وفي كتب التفسير نفسها أشياء جديرة بمراجعة العلماء المتبحّرين في علوم الكتاب والسنّة وتحقيقهم إياها من جديد تحقيقا دقيقا.
[المشورة الصادقة]
ولما تقدم بي البحث بعض الشيء ألفيت المشورة الصادقة تصل إليّ من كل صوب، ومن ناحية الشيوخ أكثر من كل ناحية أخرى بطبيعة الحال. وكانت المعونة الكبرى معونة دار الكتب ورجالها الذين أمدّوني من ألوان المعونة بما لا يفي الشكر بحسن تقديره. ويكفي أن أذكر أن الأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بالقسم الأدبي بدار الكتب كان يكفيني مؤونة الذهاب إلى الدار في كثير من الأحيان ويستعير لي ما أريد استعارته من الكتب مشمولا بعطف مدير الدار وكبار القائمين بالأمر فيها، وأن أذكر أني في كل مرة ذهبت إلى الدار كنت أجد أجمل العون في البحث عما أريد البحث فيه من موظّفي الدار كبارا وصغارا، من عرفت منهم ومن لم أعرف.