إذا كان من بين المسيحيين قدّيسون أنكروا القتال في مختلف العصور وسموا بذواتهم إلى الذروة من معنى الإخاء الإنساني، بل من معنى الإخاء بين عناصر الكون كله، فمن بين المسلمين كذلك قدّيسون سمت نفوسهم هذا السموّ واتصلوا بكل الوجود اتصال إخاء ومحبة وإشراق ملأ منهم النفوس بوحدة الوجود. لكن هؤلاء القدّيسين، من النصارى والمسلمين، وإن صوّروا المثل الأعلى، لا يمثلون حياة الإنسانية أثناء تطوّرها الدائم وفي دأب جهادها إلى الكمال، إلى هذا الكمال الذي نحاول تصوّره ثم يقعد بنا العقل ويقعد بنا الخيال دون شيء من الدقّة وفي إدراكه، وإن نحن جازفنا بتصويره تمهيدا لما نحاول من جهود في سبيله. وهذه سبع وخمسون وثلثمائة وألف سنة قد انقضت منذ هجرة النبي العربي من مكة إلى يثرب والناس في مختلف العصور يزدادون في القتال افتنانا وفي صنع آلاته الجهنمية المدمرّة دقة وإتقانا. وما تزال كلمات نبذ الحرب وإلغاء التسلح والتحكيم لا تزيد على أنها كلمات تقال في أعقاب كل حرب تنهك الأمم، أو على أنها دعايات تلقى في جوّ الحياة من أناس لم يستطيعوا حتى اليوم- ومن يدري! فلعلهم لا يستطيعون يوما- أن يحقّقوا منها شيئا، وأن يحلوا السلام الصحيح؛ سلام الإخاء والعدل، محلّ السلام المسلح نذير الحرب وطليعة ويلاتها.
[الإسلام دين الفطرة]
والإسلام ليس دين وهم وخيال، ولا هو دين يقف عند دعوة الفرد وحده إلى الكمال؛ إنما الإسلام دين الفطرة التي فطر الناس جميعا عليها أفرادا وجماعات، وهو دين الحق والحرية والنظام. وما دامت الحرب في فطرة الناس، فتهذيب فكرتها في النفوس وحصرها في أدقّ الحدود الإنسانية هو غاية ما تحتمل فطرة البشر، وما يحقق للإنسانية اتصال تطورها في سبيل الخير والكمال. وخير تهذيب لفكرة الحرب ألا تكون إلا للدفاع عن النفس وعن العقيدة وعن حرية الرأي والدعوة إليه، وأن ترعى فيها الحرمات الإنسانية تمام الرعاية. وهذا ما قرر الإسلام على ما رأينا وما سنرى من بعد. وهذا ما نزل به القرآن، وضعناه وسنضعه تحت نظر القارئ في الأحوال والمناسبات التي نزل فيها.