للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الخلاف بين هذه الكتب]

وأوّل هذه الأسباب ما بين هذه الكتب من خلاف في رواية الكثير من الأمور المنسوبة إلى النبيّ العربيّ منذ مولده إلى وفاته؛ فقد لاحظ الذين درسوا هذه الكتب أن ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات ومن كثير غيرها من الأنباء، كان يزيد وينقص دون مسوّغ إلا اختلاف الأزمان التي وضعت هذه الكتب فيها. فقديمها أقل رواية للخوارق من متأخرها. وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بعدا عن مقتضى العقل مما ورد في كتب المتأخرين. وهذه سيرة ابن هشام أقدم السير المعروفة اليوم تغافل كثيرا مما ذكره أبو الفداء في تاريخه، ومما ذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء، ومما ذكر في كتب المتأخرين جميعا. وكذلك الشأن في كتب الحديث واختلافها؛ فبعضها يروي قصة من القصص، وبعضها يغافلها وبعضها يضعفها. فلابدّ للباحث في هذه الكتب جميعا بحثا علميّا أن يضع مقياسا يعرض عليه ما اختلفت فيه وما اتفقت عليه. فما صدّقه هذا المقياس أقرّه الباحث، وما لم يصدّقه وضعه موضع التمحيص إذا كان مما يقبل التمحيص.

وقد أخذ السلف بهذه الطريقة في بعض الأمور وأغفلوها في بعضها. من ذلك قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لمّا ضاق ذرعا بسادات قريش تلا عليهم سورة النجم، حتى إذا بلغ منها قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) «١» قرأ: «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى» ، ثم مضى في قراءة السورة إلى آخرها وسجد فسجد المسلمون والمشركون معه. هذه القصة رواها ابن سعد في طبقاته الكبرى ولم يعرض لها بنقد. ووردت في الصحيح من بعض كتب الحديث مع اختلاف في الرواية عن الغرانيق. أمّا ابن إسحاق فروى هذه القصة وقال: إنها وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في كتاب «البداية والنهاية في التاريخ» فقال: «ذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها في موضعها. إلا أن أصل القصة في الصحيح» ، ثم ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله: «انفرد به البخاري دون مسلم» . أما أنا فلم أتردد في نفي القصة من أساسها والاتفاق مع ابن إسحاق في أنها من وضع الزنادقة؛ وسقت في تفنيدها أدلّة لم أكتف فيها بما في هذه القصة من نقض ما للرسل من عصمة في تبليغ رسالات ربهم، بل استعنت فيها كذلك بقواعد النقد العلمي الحديث.

وسبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ونقده نقدا دقيقا على الطريقة العلمية، أن أقدمها كتب بعد وفاة النبي بمائة سنة أو أكثر، وبعد أن فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كان اختلاف الروايات والأحاديث بعض وسائلها إلى الذيوع والغلب: فما بالك بالمتأخر مما كتب في أشد أزمان التقلقل والاضطراب؟ وقد كانت المنازعات السياسية سببا فيما لقيه الذين جمعوا الحديث ونفوا زيفه ودوّنوا ما اعتقدوه صحيحا منه من جهد وعنت أدّى إليهما حرص هؤلاء الجامعين على الدقة في التمحيص حرصا لا يتطرّق إليه ريب. ويكفي أن يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية لجمع الحديث وتمحيصه، وما رواه بعد ذلك من أنه ألفى الأحاديث المتداولة تربى على ستمائة ألف حديث لم يصح لديه منها أكثر من أربعة آلاف، وهذا معناه أنه لم يصح لديه من كل مائة وخمسين حديثا إلا حديث واحد. أما أبو داود فلم يصح لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة. وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث. وكثير من هذه الأحاديث التي صحّت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم من العلماء انتهى بهم إلى نفي الكثير منها، كما كان الشأن في مسألة الغرانيق. فإذا كان ذلك شأن الحديث، وقد


(١) آيتا ١٩، ٢٠.

<<  <   >  >>