ورأته خديجة كذلك فازدادت إشفاقا، وتقدّمت إليه في رقة وضراعة أن يعود إلى فراشه وأن ينام ليستريح. فكان جوابه- أو كما قال- انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلى الله وإلى عبادته. فمن ذا أدعو؟ ومن ذا يستجيب لي؟ فجهدت خديجة تهون عليه الأمر وتثبته. وسارعت فقصت عليه نبأ ورقة وما حدثها به، ثم أعلنت إليه في شوق ولهف إسلامها له وإيمانها بنبوّته.
وكان طبيعيّا أن تسارع إلى الإيمان به، وقد جربت عليه طول حياته الأمانة والصدق وعلو النفس وحب البر والرحمة، رأته في سنوات تحنثه كيف شغلت نفسه بالحق وحده، يطلبه مرتفعا بقلبه وبروحه وبعقله فوق أوهام الناس ممن يعبدون الأصنام ويقرّبون لها القرابين، وممن يرون فيها آلهة يزعمونها تضر وتنفع، ويتوهمونها خليقة بالعبادة والإجلال. رأته في سنوات تحنثه كما رأت كيف كان حاله أول عوده من حراء بعد البعث وهو في أشد الحيرة من أمره. ولقد طلبت إليه متى جاءه الملك أن يخبرها. فلما رآه أجلسته على فخذها اليسرى ثم على فخذها اليمنى، ثم في حجرها وهو ما يزال يراه، فحسرت وألقت خمارها فإذا هو لا يراه؛ فلم يبق ريب عندها في أنه ملك وليس بشيطان.
[ورقة ومحمد]
وخرج محمد من بعد ذلك يوما للطواف بالكعبة، فلقيه ورقة بن نوفل. فلما قص عليه محمد أمره قال ورقة:«والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة. ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى. ولتكذّبن، ولتؤذينّ، ولتخرجنّ، ولتقاتلنّ. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه» . ثم أدنى منه رأسه فقبّل يافوخه. وشعر محمد بصدق ورقة في قوله وبثقل ما ألقى عليه، وطفق يفكر كيف يدعو قريشا إلى ما آمن به وهو يعلم أنهم أحرص ما يكونون على باطلهم، حتى ليقاتلون في سبيله ويقتلون، وهم من بعد أهله وعشيرته الأقربون.
إنهم في ضلال، وإن ما يدعوهم إليه هو الحق. فهو يدعوهم إلى الارتفاع بقلوبهم وبأرواحهم لتتصل بالله الذي خلقهم وخلق من قبل آباءهم، ليعبدوه مخلصين له الدين طاهرة نفوسهم. وهو يدعوهم ليتقرّبوا إلى الله بالعمل الصالح وإيتاء ذي القربى حقّه وابن السبيل، ولينبذوا عبادة هذه الأحجار التي اتخذوا منها أصناما يزعمون أنها تغفر لهم ما يمنعون فيه من لهو وفسوق، ومن أكل الرّبا ومال اليتيم، فإذا عبادتها تحيل نفوسهم وقلوبهم أشدّ من الأصنام تحجرا وقسوة! وهو يهيب بهم أن ينظروا إلى ما في السموات والأرض من خلق الله لتمتثل نفوسهم ذلك كله وتدرك ما له من خطر وجلال، فتعظم بإدراكها سنّة ما في السموات وما في الأرض، ثم تعظم بعبادتها خالق الوجود كله وحده لا شريك له، وتسمو لذلك عن كل وضيع، وتتعالى عن كل دون، وتأخذها الرحمة بكل من لم يهده الله وتعمل لهدايته، وتكون البرّ لكل يتيم ولكل بائس أو ضعيف. نعم! إلى هذا أمره الله أن يدعوهم. لكن هذه القلوب القاسية، وهذه الأرواح الغلاظ قد يبست على عبادة ما كان يعبد آباؤها. ووجدت فيه تجارة تجعل مكة مركز حجيج عبدة الأصنام! أفيتركون دين آبائهم ويعرّضون مكانة مدينتهم لما قد تتعرّض له إذا لم يبق على عبادة الأصنام أحد؟! ثم كيف تطهر هذه القلوب وتخلص من أدران شهواتها، والشهوة تهبط بها إلى إرضاء بهيميّتها، في حين هو ينذر الناس أن يرتفعوا فوق شهواتهم وفوق أصنامهم؟ وإذا هم لم يؤمنوا به. فماذا عسى أن يفعل؟ هذه هي المسألة الكبرى؟