للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قبلته. فلما طلب محمد إلى مسلمي يثرب أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، مد البراء يده على ذلك وقال:

- بايعنا يا رسول الله! فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.

وقبل أن يتم البراء كلامه اعترض أبو الهيثم بن التّيّهان قائلا:

- يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال- أي اليهود- حبالا «١» ، نحن قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا دلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! فتبسم وقال:

- بل الدم الدم والهدم الهدم «٢» أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.

وهمّ القوم بالبيعة، فاعترضهم العباس بن عبادة قائلا:

- يا معشر الخزرج! أتعلمون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فدعوه؛ فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له عادعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه؛ فهو والله خير الدنيا والآخرة.

فأجاب القوم: إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟

ورد عليهم محمد مطمئن النفس قائلا: الجنة.

مدّوا إليه أيديهم، فبسط يده فبايعوه فلمّا فرغوا من البيعة قال لهم النبي أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم كفلاء. فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. فقال النبي لهؤلاء النقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي. وكانت بيعتهم الثانية هذه أن قالوا: بايعنا على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» .

تم ذلك كله جوف الليل في شعب العقبة في عزلة من الناس والقوم على ثقة من أنه لا يطّلع عليهم إلا الله- لكنهم ما كادوا يتمونه حتى سمعوا صوتا يصيح بقريش: إن محمدا والصّباء «٣» معه قد اجتمعوا على حربكم. ذلك رجل خرج لبعض شأنه، فعرف من أمر القوم قليلا اتصل بسمعه، فأراد أن يفسد عليهم تدبيرهم، وأن يدخل في روعهم أن ما بيّتوا بليل افتضح، لكن الخزرج والأوس كانوا عند عهدهم، حتى لقد قال العباس بن عبّادة لمحمد بعد أن سمع هذا المتجسّس: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا!» فكان جواب محمد أن قال: «لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم» . فرجعوا إلى مضاجعهم وناموا حتى أيقظهم الصبح.

[قريش وبيعة العقبة]

على أن الصبح ما كاد يتنفس حتى علمت قريش بنبأ هذه البيعة فانزعجت. وغدت جلتها على الخزرج في منازلهم يعاتبونهم ويقولون لهم: إنهم لا يريدون حربهم، فما بالهم يحالفون محمدا على قتالهم! وانبعث


(١) الحبال: العهود.
(٢) الهدم (بالسكون وبالتحريك) : إهدار دم القتيل. يريد إن طلب دمكم فقد طلب دمي وإن أهدر دمكم فقد أهدر دمي، لاستحكام الألفة بيننا. وهو قول معروف للعرب يقولون: دمي دمك وهدمي هدمك؛ وذلك عند المعاهدة والنصرة.
(٣) جمع صابئ وهو الخارج على دين قومه وجماعته.

<<  <   >  >>