عبد الله بن جحش، قتال الذين يفتنون المسلم عن دينه ويصدّون عن سبيل الله، وهذا هو القتال في سبيل حرية الدعوة إلى الله وإلى دينه. وبعبارة تتمشى مع أسلوب عصرنا الحاضر: الدفاع عن الرأي بالوسائل التي يقاتل بها أصحاب الرأي. فإذا أراد أحد أن يفتن رجلا عن رأيه بالدعاية وبالمنطق دون أن يحمله على ترك هذا الرأي بالقوّة وبغير القوّة من وسائل الرشوة والتعذيب، لم يكن لأحد أن يدفع هذا الرجل إلا بإدحاض حجته وتفنيد منطقه، لكنه إذا حاول بالقوة المسلحة أن يصد صاحب رأي عن رأيه، وجب دفع القوّة المسلحة بالقوّة المسلحة متى استطاع الإنسان إليها سبيلا. ذلك بأن كرامة الانسان تتلخّص في كلمة واحدة: عقيدته.
فالعقيدة أثمن، عند من يقدر معنى الإنسانية، من المال ومن الجاه ومن السلطان ومن الحياة نفسها، من هذه الحياة الماديّة التي يشترك الإنسان والحيوان فيها، يأكلون ويشربون، وتنمو أجسامهم وتقوى عضلاتهم.
والعقيدة هي هذه الصلة المعنوية بين الإنسان والإنسان، والصلة الروحية بين المرء وربه. وهي هذا الحظ الذي يمتاز به الإنسان على سائر الحيوان مما في الحياة، والذي يجعله يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثر البائس والفقير والمسكين على أهله ولو كان به وبهم خصاصة، ويتّصل بالكون كله ليعمل دائبا كي يبلغ الكون ما قدّر الله له من كمال.
إذا ملكت هذه العقيدة إنسانا فحاول غيره فتنته عنها ولم يستطع دفاعا عن نفسه، فعل ما فعل المسلمون قبل هجرتهم إلى المدينة، فاحتمل المساءة والأذى وصبر على الهون والضيم، ولم يصدّه جوع ولا حرمان أيّا كان نوعه عن التمسك بعقيدته. وهذا الذي فعل المسلمون الأوّلون هو الذي فعل المسيحيون الأولون. لكن الصابرين لعقيدتهم ليسوا هم سواد الناس ولا جماعتهم، وإنما هم الصفوة والمختارون ومن حباهم الله من قوّة الإيمان ما يصغر معه كل أذى وكل ضيم؛ وما يدكّ الرّواسي، وما تقول معه للجبل انتقل من مكانك ينتقل، على حدّ تعبير الإنجيل. لكنك إذا استطعت أن تدفع الفتنة بسلاح من يحاول الفتنة، وأن تقف في وجه من يصدّ عن سبيل الله بوسائله، وجب عليك أن تفعل، وإلا كنت مزعزع العقيدة ضعيف الإيمان. وهذا ما فعل محمد وأصحابه بعد أن استقرّ لهم الأمر بالمدينة؛ وهذا ما فعل المسيحيون بعد أن استقرّ لهم السلطان في رومية في بزنطية وبعد أن لان قلب بعض عواهل الروم لدين المسيح.
[المسيحية والقتال]
ويقول المبشرون: لكن روح المسيحية تنكر القتال على إطلاقه. ولست أقف لأبحث عن صحة هذا القول. لكن تاريخ المسيحية أمامنا شاهد عدل، وتاريخ الإسلام أمامنا شاهد عدل. فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا خضّبت أقطار الأرض جميعا بالدماء باسم السيد المسيح؛ خضبها الروم وخضبتها أمم أوربا كلها.
والحروب الصليبية إنما أذكى لهيبها المسيحيون لا المسلمون. ولقد ظلّت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوربا خلال السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل وتحارب وتريق الدماء، وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح يباركون هذه الجيوش الزاحفة للإستيلاء على بيت المقدس وعلى الأماكن النصرانية المقدّسة. أفكان هؤلاء البابوات جميعا هراطقة وكانت مسيحيتهم زائفة؟ أم كانوا أدعياء جهالا لا يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟ أم يقولون: تلك كانت العصور الوسطى عصور الظلام فلا يحتج على المسيحية بها؟ إن يكن ذلك بعض ما قد يقولون، فإن هذا القرن المتم للعشرين الذي نعيش فيه والذي يسمونه عصر الحضارة الإنسانية العليا، قد رأى ما رأت تلك العصور الوسطى المظلمة. فقد وقف اللورد اللنبي ممثل الحلفاء:
إنكلترا وفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأمريكا، يقول في بيت المقدس في سنة ١٩١٨ حين استيلائه عليه في أخريات الحرب العالمية الأولى:«اليوم انتهت الحروب الصليبية» .