إن أجلب الناس وشدّوا الرّنّة ... مالي أراك تكرهين الجنّة
ثم أخذ سيفه فتقدّم فقاتل حتى قتل.
هؤلاء زيد وجعفر وابن رواحة استشهدوا ثلاثتهم في سبيل الله في موقعة واحدة. لكن النبيّ لمّا علم بخبرهم كان على زيد وجعفر أكبر أسى، وقال: لقد رفعوا إلىّ الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير صاحبيه؛ فسأل: لم هذا؟ فقيل: مضيا، وتردّد عبد الله بعض التردد ثم مضى. أترى إلى هذه العبرة والموعظة الحسنة! فإنما معناها أن المؤمن لا يجوز له أن يتردد أو يخاف الموت في سبيل الله؛ بل يجب عليه، كلما مضى في أمر يؤمن بأنه لله والوطن، أن يحمل حياته على كفّه، وأن يلقى بها في وجه من يقف في سبيله؛ فإما فاز وظفر فبلغ ما يؤمن به من حق الله والوطن، وإمّا استشهد فكان المثل الحيّ لمن بعده والذكر الباقي لروح عظيم عرف أن قيمة الحياة ما يضحّى بالحياة في سبيله، وأن الإمساك على الحياة في مذلة إهدار للحياة، فما يستحق صاحبها بعد ذلك في الحياة ذكرا؛ وأن الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو عرّض حياته تعريضا تذهب معه ضحية غرض وضيع، وأنه كذلك يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو أمسك على حياته حين يدعوه داعي الحق جلّ شأنه ليقذف بها في وجه الباطل ليستحقه، فيواريها هو بالحجاب ويخاف عليها الموت خوفا هو شرّ من الموت. وإذا كان التردّد القليل من ابن رواحة مع إقدامه بعد ذلك واستشهاده، قد جعله في غير مكانة زيد وجعفر اللذين اقتحما صفوف الموت اقتحاما وطارا للاستشهاد فرحا، فما بالك بالذي ينكص على عقبيه طمعا في جاه أو مال أو غرض من أغراض الحياة! إنه إذا للحشرة الحقيرة وإن عرض عند السواد جاهه، وإن بزّ مال قارون ماله. وهل لنفس إنسانية أن تغتبط حقّا لشيء اغتباطها للتضحية في جانب ما تؤمن بأنه الحقّ، حتى تنتهي من ذلك إلى الاستشهاد في سبيل الحق، أو إلى تمليك الحق الحياة!
[مداورة خالد بن الوليد]
قتل ابن رواحة بعد تردد ثم إقدام، فأخذ الراية ثابت بن أرقم أحد بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فأخذ خالد الراية مع ما رأى من تفرّق صفوف المسلمين وتضعضع قوتهم المعنوية. وكان خالد قائدا ماهرا ومحرّكا للجيوش قلّ نظيره. لذلك أصدر أوامره، فداور بالمسلمين حتى ضم صفوفهم، ووقف من محاربة العدو عند مناوشات امتدّت به حتى أرخى الليل سدوله، ووضع الجيشان السلاح إلى الصباح. أثناء ذلك أحكم خالد تدبير خطّته، فوزّع عددا غير قليل من رجاله في خط طويل من مؤخّرة جيشه أحدثوا، إذا أصبح الناس، من الجلبة ما أدخل في روع عدوّه أن مددا جاءه من عند النبي. وإذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بالروم الأفاعيل في اليوم الأوّل وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وإن لم يستطيعوا أن يثبتوا، فما عسى أن يصنع هذا المدد الذي جاء لا يدري أحد عدّته!! لذلك تقاعس الروم عن مهاجمة خالد وسرّوا بعدم مهاجمته إيّاهم، وكانوا أكثر سرورا بانسحابه ومن معه راجعين إلى المدينة، بعد معركة لم ينتصر بها المسلمون وإن كان حقّا كذلك أن عدوّهم لم ينتصر عليهم فيها.