فأقتله فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار» . كذلك قال عبد الله بن عبد الله بن أبيّ لمحمد. وما أحسب عبارة من عبارته على إيجازها في قوة التعبير عن حالة نفسية تضطرب فيها أقوى العوامل في النفس أثرا: تضطرب فيها عوامل البرّ بالأب وصدق الإيمان والنخوة العربية والحرص على سكينة المسلمين حتى لا تتواتر الثارات بينهم! فهذا ابن يرى أباه سيقتل، فلا يطلب إلى النبيّ ألّا يقتله، لأنه يؤمن بأن النبيّ إنما يصدع بأمر ربه، ويوقن بكفر أبيه. وهو، من خيفة ما يقتضيه البرّ بأبيه وما تقتضيه الكرامة والنخوة أن يثأر له ممّن قتله، يريد أن يحمل على نفسه وأن يقتل هو أباه، وأن يحمل هو بنفسه إلى النبيّ رأسه، وإن قطّع قلبه وفرى كبده! وهو يجد في إيمانه بعض الغزاء عن هذا الشطط الذي يكلف نفسه، مخافة أن يدخل النار إن هو قتل المؤمن الذي يأمره النبيّ بقتل أبيه. أيّ جلاد بين الإيمان والعاطفة والخلق أشدّ من هذا الجلاد! وأية مأساة مأساة نفسيّة أفتك بصاحبها من هذه المأساة! أفتدري بم أجاب النبي عبد الله بعد أن سمع قوله:«إنّا لا نقتله بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» .
[عفو النبي عن ابن أبي]
يا لروعة العفو وجلاله! محمد يترفّق بهذا الذي يؤلب أهل المدينة عليه وعلى أصحابه، فيكون رفقه ويكون عفوه أبعد من عقوبته لو أنه أنزلها به. فقد كان عبد الله بن أبي بعد ذلك إذا أحدث الحدث يعاتبه قومه ويعنفونه ويشعرونه أن حياته بعض هبات محمد له. وتذاكر النبي مع عمر يوما شؤون المسلمين وجاء ذكر ابن أبي وما يعاتبه قومه وما يعنفونه؛ فقال محمد: كيف ترى يا عمر! أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعظم بركة من أمري.
[عائشة مع النبي في بني المصطلق]
حدث ذلك كله بعد أن عاد المسلمون إلى المدينة ومعهم ما معهم من السّبي والغنائم. على أن أمرا حدث لم يترك بادئ الرأي أثرا، كان له بعد ذلك حديث طويل. ذلك أنّ النبيّ كان إذا غزا أقرع بين نسائه، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه. وخرج سهم عائشة غزوة بني المصطلق فخرج بها. وكانت عائشة نحيفة خفيفة، فكانوا إذا جاؤا بالهودج إلى بابها خرجت إليه فأخذ الرجال به فشدّوه إلى البعير وهم لا يكادون يشعرون بها لخفّة زنتها. ولمّا فرغ النبيّ من سفره وسار ومن معه مسيرتهم الطويلة المضنية التي ذكرنا، اتّجه بعد ذلك إلى المدينة، حتى إذا كان قريبا منها نزل منزلا بات به بعض الليل ثم أذّن في الناس بالرحيل وكانت عائشة قد خرجت من خيمة النبي لبعض حاجتها والهودج موضوع أمام الخيمة في انتظار دخولها فيه. وكان لعائشة عقد انسل من عنقها وهي بعض حاجتها، فلما قامت عائدة إلى الرحيل التمست العقد فلم تجده فرجعت أدراجها تبحث عنه. ولعلّها بحثت عنه طويلا حتى وجدته. ولعلها أغفت أثناء ذلك لفرط ما نالها من التعب بعد مسيرتهم المجهدة. ورجعت إلى المعسكر لتستقلّ هودجها، فإذا القوم قد شدّوه إلى ظهر البعير وهم يحسبونها فيه، وارتحلوا وهم يحسبون أنهم حملوا معهم أشدّ أمهات المؤمنين حظوة عند النبي. ولم تجد هي في المعسكر داعيا ولا مجيبا. فلم يساورها الخوف وأيقنت أن القوم إذا افتقدوها فلم يجدوها رجعوا إليها، فخير لها أن تبقى مكانها من أن تضرب في الصحراء على غير هدى فتضلّ السبيل. ولم يساورها الخوف فالتفّت في جلبابها واضطجعت مكانها منتظرة دعوة الباحث عنها. وإنها لفي ضجعتها إذ مرّ بها صفوان بن المعطّل السّلميّ، وكان قد تخلّف عن العسكر لبعض حاجاته وكان يراها قبل أن يضرب الحجاب على نساء النبي، فلما بصر بها على هذه الحال تراجع دهشا وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم! ما خلّفك رحمك الله؟