أهله وأتباعه يهدّدون، فلا يزيده ذلك إلا صبرا وإمعانا في الدعوة. وامتلأت نفوس المؤمنين الذين اتّبعوه بقوله:
«والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» . وهانت عليهم جميعا التضحيات الجسام، وهان عليهم الموت في سبيل الحق وهداية قريش له. وقد تعجب لهذا الإيمان الآخذ بنفوس أولئك المكيين ولمّا يكن الدين قد كمل، ولمّا يكن قد نزل من القرآن إلا القليل. وقد تحسب أن شخصية محمد ودماثة طبعه وجميل خلقه وما عرف من صدقه وما بدا من صلابة عوده وقوة عزمه وثبات إرادته، كان السبب في كل هذا. ولا ريب قد كان لهذا كله حظه ونصيبه، لكن عوامل أخرى جديرة بالتقدير والاعتبار كان لها هي أيضا نصيب في ذلك غير قليل.
فقد كان محمد في بلاد حرّة هي أشبه ما تكون بالجمهورية. وكان في الذّروة والسنام منها حسبا ونسبا.
وكان قد وصل من المال إلى ما يشاء. وكان إلى ذلك من بني هاشم. اجتمعت لهم سدانة الكعبة وسقاية الحاجّ وما شاؤا من مجد الألقاب الدينيّة. فلم يكن لذلك في حاجة إلى المال أو الجاه أو المكانة السياسية أو الدينية.
وكان في ذلك على خلاف من سبقه من الرسل والأنبياء. فقد ولد موسى في مصر وفيها فرعون يدين له أهلها بالألوهية وينادي هو فيهم «أنا ربكم الأعلى» ، وتعاونه طائفة رجال الدين على سوم الناس ألوان الظلم والاستغلال والعسف، فكانت الثورة التي قام بها موسى بأمر ربه ثورة نظام سياسيّ وديني معا. أليس يريد أن يكون فرعون والرجل الذي يرفع الماء بالشادوف من النيل أمام الله سيّين؟ إذا فما هي ألوهيّة فرعون وما هذا النظام القائم! يجب أن يحطم ذلك كله، ويجب أن تكون الثورة سياسية أولا. لهذا لقيت الدعوة الموسويّة منذ بداءتها حربا من فرعون شعواء، ولذلك آزرت المعجزات موسى ليؤمن الناس بدعوته. ألقى عصاه فإذا هي حيّة تسعى تلقف ما صنع سحرة فرعون. ولم يجد ذلك موسى شيئا، فاضطرّ إلى مغادرة وطنه مصر؛ وقد آزرته في هجرته معجزة إنفلاق الطريق في البحر خلال الماء. وقد ولد عيسى في النّاصرة من أعمال فلسطين، وهي يومئذ ولاية رومانية خاضعة لحكم القياصرة ولظلم المستعمرين بها ولآلهة رومية؛ فدعا الناس إلى الصبر على الظلم، وإلى المغفرة للتائب المنيب، وإلى ألوان من الرحمة اعتبرها القائمون بالأمر ثورة على تجبرهم، فازرت عيسى معجزات إحياء الموتى وإبراء المرضى وسائر ما أيده به روح القدس من عنده. صحيح أن تعاليمهم تنتهي في جوهرها إلى ما تنتهي إليه تعاليم محمد في جوهرها، مع خلال في التفاصيل ليس هنا موضع إيضاحه. لكنّ هذه العوامل المختلفة، والعامل السياسيّ في مقدّمتها، وجّهت دعوتهما اتجاهها. أمّا محمد، وكانت ظروفه ما قدّمنا، فكانت رسالته عقليّة روحيّة، أساسها الدعوة إلى الحق والخير والجمال، دعوة مجرّدة في بدئها وفي غايتها. ولبعدها عن كل خصومة سياسية لم تزعج النظام الجمهوري الذي كان قائما بمكة بأية صورة من صور الإزعاج.
[دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة]
وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكر ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قويّ؛ فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة لك في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على المقدّمات العلمية. فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرّب الخطأ إلى ناحية من نواحيها. وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته، فكيف اقتنع الذين اتبعوه بدعوته وآمنوا بها؟ نزعوا من نفوسهم كل عقيدة سابقة وبدؤا يفكرون فيما أمامهم. لقد كان لكل قبيلة من قبائل