العرب صنم. فأي صنم هو الحق وأي صنم هو الباطل؟ وكان في بلاد العرب وفي البلاد التي تجاورها صابئة ومجوس يعبدون النار، وكان فيها الذين يعبدون الشمس فأيّ هؤلاء على الحق، وأيهم على الباطل؟ لنذر هذا كله إذا جانبا، ولنمح أثره من نفوسنا، ولنتجرد من كل رأي ومن كل عقيدة سابقة ولننظر. والنظر والملاحظة بطبيعة الحال سيّان. مما لا شبهة فيه أن لكل موجود بسائر الموجودات اتصالا؛ فالإنسان تتصل قبائله بعضها ببعض وأممه بعضها ببعض. والإنسان يتصل بالحيوان والجماد. وأرضنا تتصل بالشمس وبالقمر وبسائر الأفلاك. وذلك كله يتصل في سنن مطّردة لا تحويل لها ولا تبديل. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار. ولو أن إحدى موجودات الكون تحوّلت لتبدّل ما في الكون. فلو أن الشمس لم تسعد الأرض بالنور والحرارة، على السنّة التي تجري عليها منذ ملايين السنين، لتبدّلت الأرض غير الأرض والسماء. وما دام ذلك لم يحدث. فلا بد لهذا الكل من روح يمسكه؛ منه نشأ، وعنه تطوّر، وإليه يعود. هذا الروح وحده هو الذي يجب أن يخضع له الإنسان. أمّا سائر ما في الكون فهو خاضع لهذا الروح كالإنسان سواء. والإنسان والكون والزمان والمكان وحدة، وهذا الروح جوهرها ومصدرها. وإذا فلتكن لهذا الروح وحده العبادة. ولهذا الروح يجب أن تتجه القلوب والأفئدة. وفي الكون كله يجب أن نلتمس من طريق النظر والتأمل سننه الخالدة. وإذا فما يعبد الناس من دون الله أصناما وملوكا وفراعنة ونارا وشمسا إنما هو وهم باطل غير جدير بالكرامة الإنسانية، ولا هو يتفق مع عقل الإنسان وما كرّم به من القدرة على استنباط سنّة الله من طريق النظر في خلقه.
هذا جوهر الدعوة المحمدية على ما عرفها المسلمون الأولون. وقد أبلغهم الوحي إياها على لسان محمد في آي من البلاغة كانت ولن تزال معجزة؛ فجمع لهم بذلك بين الحق وتصويره في كمال جماله. وهنالك ارتقت نفوسهم وسمت قلوبهم تريد الاتصال بهذا الروح الكريم؛ فهداهم محمد إلى أن الخير هو طريق الوصول، وأنهم مجزيّون عن هذا الخير يوم يتمون واجبهم في الحياة بالتقوى، ويوم تجزى كلّ نفس بما كسبت.
أيّ سموّ بالعقل الإنساني أعظم من هذا السموّ! وأي تحطيم لقيوده أشدّ من هذا التحطيم!! حسب الإنسان أن يفهم هذا وأن يؤمن به وأن يعمل عليه ليبلغ الذروة من مراتب الإنسان. وفي سبيل هذه المكانة تهون كل تضحية على من يؤمن بها.
وقد كان من جلال موقف محمد ومن اتبعه أن ازداد بنو هاشم وبنو المطلب منعا له ودفعا للأذى عنه. مرّ أبو جهل بمحمد يوما فاذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتوهين من أمره، فأعرض محمد عنه وانصرف ولم يكلمه. وكان حمزة عمه وأخوه من الرضاعة، لا يزال على دين قريش، وكان رجلا قويّا مخوفا.
وكان ذا ولع بالصيد، فإذا رجع من صيده طاف بالكعبة قبل أن يعود إلى داره. فلما جاء في ذلك اليوم وعلم بما أصاب ابن أخيه من أذى أبي جهل ملأه الغضب؛ وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلما على أحد ممن كان عندها كعادته، ودخل المسجد فألقى أبا جهل فقصد إليه، حتى إذا بلغه رفع القوس فضربه بها فشجّه شجة منكرة.
وأراد رجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل فمنعهم حسما للشر ومخافة استفحاله معترفا أنه سبّ محمدا سبّا قبيحا، ثم أعلن حمزة إسلامه، وعاهد محمدا على نصرته والتضحية في سبيل الله حتى النهاية.