عامل محمد يهود خيبر بغير ما عامل به بني قينقاع وبني النّضير حين أجلاهم عن أرضهم، لأنه أمن بسقوط خيبر بأس اليهود، وآمن بأنهم لن تقوم لهم بعد ذلك قائمة أبدا. ثم إن ما كان بخيبر من الحدائق والمزارع والنخيل كان يحتاج إلى الأيدي العاملة الكثيرة لاستغلاله وحسن القيام على زراعته. ولئن كان أنصار المدينة أهل زراعة، لقد كانت أرضهم بها في حاجة إلى أذرعهم كما أن النبي كان في حاجة إلى جيوشه للحرب، فهو لا يرضى أن يتركها للزرع. وكذلك ظلّ يهود خيبر يعملون بعد أن انهار سلطانهم السياسي انهيارا جنى على نشاطهم؛ حتى لقد أسرعت خيبر من ناحية الزراعة نفسها إلى البوار والخراب، مع ما كان من حسن معاملة النبي أهلها، ومن عدل عبد الله بن رواحة رسوله إليهم كل عام بينهم في القسمة. وكان من إحسان النبي معاملة يهود خيبر أنه كان من بين ما غنم المسلمون حين غزوها عدّة صحائف من التوراة، فطلب اليهود ردها فأمر النبيّ بتسليمها لهم، ولم يصنع صنيع الرومان حين فتحوا أوريشلم وأحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، ولا هو صنع صنيع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة.
ولمّا طلب يهود خيبر الصلح، أثناء محاصرة المسلمين إيّاهم في حصني الوطيح والسّلالم، بعث النبيّ إلى أهل فدك ليسلّموا برسالته أو يسلّموا أموالهم. ووقع في نفوس أهل فدك الرعب بعد الذي علموا من أمر خيبر، فتصالحوا على نصف أموالهم من غير قتال. فكانت خيبر للمسلمين لأنهم قاتلوا لاستخلاصها، وكانت فدك خالصة لمحمد لأن المسلمين لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
[إذعان وادي القرى]
وتجهز الرسول بعد ذلك كله للعود إلى المدينة عن طريق وادي القرى؛ فتجهّز يهودها لقتال المسلمين، وقاتلوا. لكنهم اضطرّوا إلى الإذعان والصلح كما صنعت خيبر. أمّا يهود تيماء فقبلوا الجزية من غير حرب ولا قتال. وبذلك دانت اليهود كلها لسلطان النبيّ، وانتهى كل ما كان لهم من سلطان في شبه الجزيرة، وأصبح محمد بمأمن من ناحية الشمال إلى الشام، كما صار من قبل ذلك بمأمن من ناحية الجنوب بعد صلح الحديبية.
وبانهيار سلطان اليهود خفّت بغضاء المسلمين، والأنصار منهم خاصة، لهم، وتغاضوا عن رجوع بعضهم إلى يثرب، ووقف النبيّ مع اليهود الذين بكوا عبد الله بن أبيّ وعزّى ابنه، وأوصى معاذ بن جبل بألا يفتن اليهود عن يهوديتهم؛ ولم يفرض الجزية على يهود البحرين وإن ظلوا متمسكين بدين آبائهم؛ وصالح بني غازية وبني عريض على أن لهم الذمّة وعليهم الجزية. وعلى الجملة دان اليهود لسلطان المسلمين، وتضعضع في بلاد العرب مركزهم حتى اضطروا إلى مهاجرة تلك البلاد وكانوا من قبل بها أعزّة، وحتى تمّ جلاؤهم في حياة الرسول على قول، وبعد وفاته على قول آخر.
على أن إذعان أهل خيبر وسائر اليهود لمصيرهم في شبه الجزيرة، لم يقع مرّة واحدة بعد هزيمتهم، بل لقد كانت نفوسهم في أثر الهزيمة ملأى بالغلّ والغضب أخبث الغضب. أهدت زينب الحارث امرأة سلام بن مشكم إلى محمد شاة- بعد أن اطمأن وبعد أن وقع الصلح بينه وبين أهل خيبر- فجلس وأصحابه حولها لياكلوها، وتناول عليه السلام فلاك منها مضغة فلم يسغها، وكان بشر بن البراء معه تناول منها مثل ما تناول.
فأمّا بشر فأساغها وازدردها. وأما الرسول فلفظها وهو يقول: إن العظم ليخبرني أنه مسموم. ثم دعا بزينب فاعترفت وقالت: لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيّا فسيخبر. ومات بشر من أكلته هذه.