بقلم المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي منذ وجد الإنسان على الأرض وهو مشوق إلى تعرّف ما في الكون المحيط به من سنن وخصائص، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل، وظهر ضعفه وتضاءل غروره. ونبيّ الإسلام صلوات الله عليه شبيه بالوجود. فقد جدّ العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يتلمسون نواحي العظمة الإنسانية فيه، ويتلمسون مظاهر أسماء الله جلّت قدرته في عقله وخلقه وعلمه. ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى الشيء من المعرفة، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة؛ وأمامهم جهاد طويل، وبعد شاسع، وطريق لا نهاية له.
والنبوّة هبة الله لا تنال بالكسب؛ لكن حكمة الله وعلمه قاضيان بأن تمنح للمستعد لها والقادر على حملها. الله أعلم حيث يجعل رسالته. ومحمد صلى الله عليه وسلّم أعدّ لأن يحمل الرسالة للعالم أجمعه، أحمره وأسوده، إنسه وجنه، وأعدّ لأن يحمل رسالة أكمل دين، ولأن يختم به الأنبياء والرسل، وليكون شمس الهداية وحده إلى أن تنفطر السماء وتنكدر النجوم، وتبدّل الأرض غير الأرض والسموات.
عصمة الأنبياء في التبليغ وأداء أمانة الوحي قضية فرغ العلماء منها، فليس للأنبياء فضل الاختيار في التبليغ وأداء الأمانة بعد طبعهم بخاتم النبوّة واختيارهم لها. وهذا التبليغ نتيجة حتمية للنبوّة لا مردّ لها. غير أن الوحي لا يلازم الأنبياء في كل عمل يصدر عنهم وفي كل قول يبدر منهم، فهم عرضة للخطأ، يمتازون عن سائر البشر بأن الله لا يقرّهم على الخطأ بعد صدوره، ويعاتبهم عليه أحيانا.
أمر محمد صلى الله عليه وسلّم بأن يبلغ عن ربه، ولم تبين له الطرق التي يتبعها في التبليغ وفي حماية الدعوة، وترك له أن يتصرف بعقله وعمله وفطنته، كما يتصرف غيره من العلماء والعقلاء. وجاء الوحي مفصلا قاطعا في كل ما يخص ذات الإله ووحدته وصفاته وكيفية عبادته؛ ولم يكن كذلك فيما يخص النظم الاجتماعية للأسرة والقرية والمدينة والدولة منفردة ومرتبطة بغيرها من الدول. فهناك مجال واسع للبحث عن عظمة النبي صلى الله عليه وسلّم قبل الوحي، وهناك مدى فسيح للبحث عن تلك العظمة بعد الوحي. فقد صار مبلغا عن ربه داعيا إليه، حاميا لتلك الدعوة ولحرّية الداعين، مدافعا عنهم؛ وأصبح حاكم الأمة الإسلامية وقائد حربها ومفتيها وقاضيها ومنظّم جميع الصّلات والروابط فيها، وبينها وبين غيرها من الأمم. وقد أقام العدل في ذلك كله، وألّف بين