كتاب. والناس أينما يكونوا يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيّدة. وهذا هو الذي جعل محمدا يثبت حين فرّ المسلمون منهزمين عندما بدأت غزوة حنين، ويدعو الناس إليه غير آبه للموت المحيط به وبالعدد القليل الذين ثبتوا معه. وهذا الإيمان هو الذي جعله يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، ويبرّ اليتيم وابن السبيل وكل بائس وكل محروم، ويسمو إلى ذروة ما دعا إليه كتاب الله من فضائل. ذلك كله، واحتذاء المسلمين مثاله في الصدر الأول، جعل الإسلام يسرع إلى الإنتشار في العقود الأولى من السنين التي تلت اختيار الله نبيّه إلى جواره؛ وينتشر لينشر في كل قطر رفرفت عليه أعلامه أسمى ما قرّرته هذه الحضارة، ولينشئ بذلك من هذه الأمم المنحلّة المتهدّمة شعوبا قوية ودولا ذات بأس تقبل على العلم وتصل من طريقه إلى الإتصال بكثير من أسرار الكون، وتبدع لذلك في الحياة من المنشات ما تفاخر به هذا العصر الحاضر الذي يزعمونه عصر النور والعلم، من غير أن يجني ذلك على سعادة الإنسانية بسبب عبادة المادة وضعف الإيمان بالله.
[العلماء المضلون]
وإنما اندسّت في الحضارة الإسلامية أهواء الشعوبية والإسرائيليات، كما اندسّت في غيرها من الحضارات لأن طائفة من العلماء الذين يجب عليهم أن يكونوا ورثة الأنبياء، قد آثرت السلطان على الحق، والجاه على الفضيلة، فاتخذت من علمها وسيلة تضلل بها سواد الناس وناشئتهم، كما يضلّل كثيرون من علماء هذا العصر سواد أهله وناشئته. هؤلاء العلماء هم أنصار الشيطان، وهم لذلك أثقل الناس تبعة أمام الله.
وأول واجب على كل عالم مخلص حقّا لعلمه ولله أن يحاربهم وأن يستأصل بذور فسادهم. لأنهم يفتنون الناس عن الحق والهدى ويضلّونهم عن سواء السبيل. وإذا جاز أن يكون لهؤلاء العلماء المضلّين مجال حيث تقتتل الكنيسة والعلم على السلطان في الغرب، فلا مجال لهم في البلاد الإسلامية حيث تزاوج الحضارة بين الدين والعلم، وحيث يكون الدين بغير علم كفرا، والعلم بغير دين تجديفا. ولو أن العالم استظلّ بحضارة الإسلام على ما صوّرها القرآن، ولم تجن عليه فتوح المغول وغيرهم ممن دخلوا في الإسلام ولم يعملوا بمبادئه ولا عملوا على نشرها، بل اتخذوه وسيلة لحكم سواد المسلمين على مبادئ تناقض مبادئ الإخاء الإسلامي، لتبدّل الأمر في العالم غير الأمر، ولنجت الإنسانية من كثير مما ترزح اليوم تحته من أهوال الشقاء.
[كيف تقوم الحضارة الإسلامية في عالمنا الحاضر]
وإنني لواثق أن تسود الحضارة التي صوّرها القرآن العالم إذا قام جماعة من العلماء يدعون إليها على طريقة علمية بعيدة عن الجمود والتعصب. فهذه الحضارة تخاطب القلب كما تخاطب العقل، وتكفل إقبال الناس من كل الأمم عليها إقبالا لن تستطيع مطامع أصحاب المطامع صدّه. ولا يطلب إلى هؤلاء العلماء أكثر من أن يكونوا مؤمنين حقّا، يدعون الناس إلى الله وإلى هذه الحضارة مخلصين له الدين حنفاء. يومئذ يسعد الناس بالإخاء في الله كما سعدوا به في عهد النبيّ.
وما كان في عهد النبيّ وفي الصدر الأوّل، ينهض دليلا على ما قلته في مقدّمة هذا الكتاب من أن البحث العلمي في الثورة الروحية التي أفاض محمد على العالم ضياءها جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمسها، وأنا لا أرتاب في ذلك لحظة. لكن لعلماء الغرب بعض اعتراضات يبدونها، ينسبونها إلى الروح الذي صدرت عنه فكرة الحضارة الإسلامية، ويقيمون على أساسها حكمهم بأن الإسلام كان سببا في تدهور الأمم التي دانت به. وأهمّ هذه الاعتراضات ما يذهبون إليه من أن الجبرية الإسلامية أضعفت همة المسلمين، وقعدت بهم عن الكفاح في الحياة، فهانوا وذلّوا. ودفع هذا الاعتراض وما يجري مجراه هو موضوع المبحث الثاني من هذه الخاتمة.