مباحث الكتاب فدفعتني إلى مزيد من التفكير والمراجعة. ولشدّ ما أحرص على أن تكون هذه الطبعة الثانية أدنى إلى إرضاء هؤلاء العلماء جميعا، وإن كنت لا أرى في البحث كله، كما ذكرت في تقديم الكتاب، إلا أنه بداءة بحث في موضوعه باللغة العربية وضع على الطريقة العلمية الحديثة.
ومما أدىّ بي كذلك إلى تناول الطبعة الأولى بالتنقيح والزيادة، أنني عدت إلى تلاوة الكتاب بعدها. بعد أن وقفت على ما أبدي عليه من ملاحظات لم يغب أكثرها عني أثناء وضع الكتاب، فاقتنعت بضرورة الإفاضة في تمحيص بعض ما وردت الملاحظات عليه لإقناع أصحاب هذه الملاحظات بوجهة نظري وصواب حجتي.
وقد هدتني مراجعاتي التي قمت بها لهذه الغاية إلى مواضع للتأمل جديرة بأن يتناولها كل كاتب سيرة النبي العربي. ولئن اغتبطت لأنني تناولت في الطبعة الأولى كل ما أشارت الملاحظات إليه، لأنا اليوم أشد اغتباطا بأن أفيض في المباحث إفاضة أعتبرها ضرورية في هذه الدراسة التمهيدية لحياة أعظم إنسان عرفه التاريخ، خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.
وقد حاولت في هذا التقديم لطبعة الكتاب الثانية تمحيص طائفة من الملاحظات التي أبديت على طريقة البحث في الطبعة الأولى. وأضفت في آخر الكتاب فصلين تناولت فيهما أمورا مررت بموضوعها لماما في خاتمة الطبعة الأولى، كما أني نقحت وأضفت في تضاعيف الكتاب ما رأيت تنقيحه أو إضافته بعد الذي هدتني إليه مراجعاتي وتأمّلاتي، إتماما للبحث وإجابة لأصحاب الملاحظات عن ملاحظاتهم.
[أنصار المستشرقين والرد عليهم]
وفي مقدّمة ما أتناوله بالتفنيد رسالة وردت إليّ من كاتب مصري ذكر أنها ترجمة عربية لمقال بعث به إلى مجلة المستشرقين الألمانية نقدا لهذا الكتاب. ولم أنشر هذه الرسالة في الصحف العربية لأن بها مطاعن لا سند لها؛ ولذلك تركت لصاحبها أن يتحمل تبعة نشرها إن شاء. ولم أر أن أذكر اسمه في هذا التقديم اقتناعا مني بأنه سيعدل عن نسبتها إليه بعد أن يقرأ تفنيدها. وخلاصة هذه الرسالة أن البحث الذي قمت به في «حياة محمد» ليس بحثا علميّا بالمعنى الحديث؛ لأنني اعتمدت فيه على المصادر العربية وحدها، ولم أرجع إلى مباحث المستشرقين الألمان من أمثال «فيل» و «جولدزهر» و «نولدكي» وغيرهم ولم آخذ بنتائج هذه البحوث، ولأني اعتبرت القرآن وثيقة تاريخية لا محل لريبة فيها، مع أن مباحث هؤلاء المستشرقين تدل على أنه حرّف وبدّل بعد وفاة النبي وفي الصدر الأول للإسلام، واسم النبي بعض ما بدّل فيه؛ فقد كان اسمه «قثم» أو «قثامة» ثم أبدل من بعد وصار «محمدا» ليتسنّى وضع الآية: «ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد» إشارة إلى ما جاء في الإنجيل عن النبي الذي يجيء بعد عيسى. ويضيف الكاتب إلى أقواله هذه أن بحوث المستشرقين دلّت كذلك على أن النبي كان يصاب بالصّرع، وأن ما كان يسميه الوحي ينزل عليه إنما كان أثرا لنوبات الصرع كانت تعتريه، وأن أعراض الصرع كانت تبدو على محمد فكان يغيب عن صوابه، ويسيل منه العرق، وتعتريه التشنجات، وتخرج من فيه الرغوة، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه إليه وتلا على المؤمنين به ما يزعم أنه من وحي ربه.
لم أكن لأعنى بهذه الرسالة ولا بتفنيد ما فيها لولا أن كاتبها مصري مسلم ولو أنه كان مستشرقا أو مبشرا لتركته ملقى حبله على غاربه، يقول ما تمليه عليه أهواؤه وما تنضح به شهواته. وحسبي ما ذكرت في تقديم الكتاب وفي تضاعيفه إدحاضا لأقوال هؤلاء وأولئك. لكن كاتب هذه الرسالة إنما هو مثل لطائفة من شباننا ورجالنا المسلمين الذين يتلقّون كل ما يقوله المستشرقون بقبول حسن، ويعتبرونه العلم الصحيح المعبّر عن