الخرافيون من جميع الملل، وبيّنت سبب هذا الافتتان والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره» .
وقال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في أول كتاب (الإسلام والنصرانية) : «فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري؛ فلا يدهشك بخارق العادة، ولا يغشى بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية. وقد اتفق المسلمون، إلا قليلا ممن لا يعتد برأيهم فيه، على أن الاعتقاد بالله مقدّم على الاعتقاد بالنبوّات، وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله. فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل، ولا من الكتب المنزلة، فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله، وبأنه يجوز أن ينزل كتابا أو يرسل رسولا» .
وأكبر ظني أن الذين كتبوا السيرة كانوا يؤثرون هذا الرأي، لولا أحوال العصر أيام المتقدّمين، ولولا أن ظن المتأخرون في ذكر ما لم يرد به القرآن من خوارق ومعجزات ما يزيد الناس إيمانا على إيمانهم؛ لذلك حسبوا أن ذكر هذه المعجزات ينفع ولا يضرّ، ولو أنهم عاشوا إلى زماننا هذه، ورأوا كيف اتخذ خصوم الإسلام ما ذكروه منها حجة على الإسلام وعلى أهله، لالتزموا ما جاء به القرآن، ولقالوا بما قال به الغزالي ومحمد عبده والمراغيّ وسائر المدققين من الائمة. ولو أنهم عاشوا في زماننا هذا، ورأوا كيف تزيغ هذه الروايات قلوبا وعقائد بدلا من أن تزيدها إيمانا وتثبيتا لكفاهم ذكر ما في كتاب الله من آيات بينات وحجج دامغة.
[الروايات التي لا يقرها العقل والعلم]
أمّا ومضرّة الروايات التي لا يقرّها العقل والعلم قد أصبحت واضحة ملموسة فمن الحق على كل من يعرض لهذه الأمور أن يراعي جانب الدقة العلمية في تمحيصها خدمة للحق وخدمة الإسلام ولتاريخ النبي العربي، وتمهيدا لما يجلوه البحث في هذا التاريخ العظيم من حقائق تنير أمام الإنسانية سبيلها إلى حضارتها الصحيحة.
[القرآن والمعجزات]
ولو أننا عرضنا كثيرا من الأمور التي ترويها كتب السيرة وكتب الحديث على ما في القرآن لما وسعنا إلا أن نأخذ برأي الأئمة المدققين. فقد كان أهل مكة يطلبون إلى النبيّ أن يجري ربه على يديه المعجزات إذا أرادهم أن يصدقوه، فنزل القرآن يذكر ما طلبوا ويدفعه بحجج مختلفة. قال تعالى:(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ. أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا)«١»