أنبياؤهم من بعد موسى يدعونهم إلى الله فقتلوهم بغير حق. فلما عادوا من بعد ذلك إلى ذكر الله انتظروا أن يقوم فيهم نبي يرد إليهم ملكا يحكمون به العالم حكما زمنيّا.
وليس هذا الحادث بالبعيد في ظلمات التاريخ، فهو لا يرجع إلى أكثر من خمسة وعشرين قرنا. وهو مع ذلك صريح في الدلالة على غلبة منطق الحس على منطق العقل، والتصوّر المادي على التصوّر الروحي؛ وبعد أن انقضت عليه خمسة قرون أو ستة جاء عيسى يدعو قومه إلى الله يؤيده الله بروح القدس من عنده. ولما كان عيسى يهوديّا، حسب اليهود أول ما نمى إليهم خبره، أنه نبيهم المنتظر ليرد إلى أرض المعاد ملكها المضاع، وكانوا أكثر لهفة على هذا الملك بعد أن طال عليهم حكم الرومان وقسوتهم. على أنهم انتظروا ليتبينوا الحق من أمر عيسى. أفتراه خاطبهم بمنطق العقل وحده؟ كلا! بل كانت المعجزة طريقة إلى إقناعهم. ولئن صحت الرواية المسيحية لقد كان تحويله الماء خمرا في عرس «قانا الجليل» أول ما لفت نظر الناس إليه. وبعد ذلك كانت معجزة الأرغفة والسمكات ومعجزات إبراء المرضى وإحياء الموتى هي التي طوّعت له أن يقوم بتعليم الناس من طريق القلب والعاطفة دون أن يكون للعقل ومنطقه الحظ الأوّل في تعاليمه. لكن هذا الحظ كان مع ذلك أوفر من حظّ من سبقه من الرسل. كانت تختلط في تعاليمه دعوة العاطفة إلى الرحمة والمغفرة والمحبة بدعوة عقلية غير مدعومة بالدليل المنطقيّ إلى ملكوت الله. فإذا تسرب الشك الى النفوس في أمر هذه الدعوة العقلية أذن الله بمعجزة جديدة تزيد الناس بالمسيح تعلقا وعليه إقبالا. وكان من معجزاته إبراء الأبرص والأكمه وإحياء الميت أن بلغت بمن اتّبعوه في تعلّقهم به مدى بعيدا، حتى حسبه بعضهم ابن الله، وحسب آخرون أنه الله تجسد على الأرض ليفتدي خطايا البشر. وهذا صريح في الدلالة على أن منطق العقل لم يكن إلى ذلك العهد قد بلغ من النضج ما يجعله وحده قديرا على إدراك الحقيقة العليا في أمر الخالق جلّ شأنه، وأنه أحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
[العلوم العقلية]
في هذا الزمن الذي جاء فيه موسى وعيسى كانت علوم مصر الفرعونية وفلسفتها وتشريعها قد انتقلت إلى اليونان وإلى رومية، وغزت بسلطانها وبمنطقها الأفكار، وأوحت إلى الفلسفة اليونانية وإلى الأدب اليوناني خير ما فيهما. وكانت يقظة العقل ومنطقه قد نبّهت الناس إلى أن الخوارق لا تنهض بذاتها دليلا عقليّا على شيء.
وكان من أثر ذلك أن جعلت الفلسفة اليونانية من جوارها للمسيحية في مصر وفلسطين والشام ما عدّد مذاهب المسيحية، على ما أشرنا إليه في أثناء هذا الكتاب. وقد كتب الله في سنته أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية، على ألّا يكون منطقا جافيا خاليا من العاطفة ومن الروح، بل على أن يكون منطقا توفيقيّا، ينتظم العقل والعاطفة والروح جميعا حتى يستطيع اكتناه غاية ما تستطيعه الإنسانية من أسرار الكون. وكذلك كتب الله في لوح هذا الوجود أن يقوم نبيّ الإسلام داعيا إلى الحق بمنطق العقل تؤازره العاطفة والروح، وأن تكون معجزة هذا المنطق البالغة في الكتاب الكريم الذي أوحاه إلى نبيه، به أكمل الله للناس دينهم وأتمّ عليهم نعمته، وبه توّج الرسالات وختمها. وإنما كان ذلك بعد هذا المجهود العظيم المتصل الذي قام به الأنبياء والرسل ووجّهوا به الإنسانية في تطوّرها الروحي حتى بلغت الدعوة الإسلامية إلى صفاء التوحيد وإلى الإيمان بالله وحده.
ولتكمل هذه العقيدة أحيط الإيمان بها بما ذكرنا من فرائض في البحث الأوّل من هذه الخاتمة. وليصل المؤمن إلى الذروة منها يجب أن يدأب للوقوف على سنّة الله في الكون دأبا يتصل حتى يبعث الله الأرض ومن عليها. وهذا ما بدأ به المسلمون في الصدر الأول وفي العصر الذي تلاه حتى آن للزمن أن يدور دورته.