أنه نبيّ ورسول، وأيّد زعمه بالتنبؤ بموقع الماء في يوم كان قومه فيه يسيرون ويكاد الظمأ يقتلهم. لكنه بقي خائفا من الانتقاض على محمد طوال حياة محمد، ولم يعلن الثورة إلا بعد أن قبض الله إليه رسوله. وهزم ابن الوليد طليحة في ثورته هذه، فانضم من جديد إلى صفوف المسلمين وحسن إسلامه. ولم يكن مسيلمة ولا كان الأسود العنسيّ خيرا مكانا من طليحة طيلة حياة النبي. بعث مسيلمة إلى النبي عليه السلام يقول: إنه نبيّ مثله، «وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون» . فلما تلا الخطاب نظر النبي لرسولي مسيلمة وأبدى لهما أنه كان يأمر بقتلهما لولا أنّ الرسل في أمن، ثم أجاب مسيلمة بأنه سمع إلى كتابه وما فيه من كذب، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، والسلام على من اتبع الهدى.
وأمّا الأسود العنسيّ، صاحب اليمن بعد موت بدهان، فقد جعل يدّعي السحر ويدعو الناس إليه خفية، حتى إذا عظم أمره سار من الجنوب وطرد عمال محمد على اليمن، وتقدّم إلى نجران وقتل فيها ابن بدهان ووارث عرشه، وبنى بزوجه، ونشر في تلك الأصقاع سلطانه. ولم يثر استفحال أمره عناية محمد، ولا استدعى من اهتمامه أكثر من أن بعث إلى عمّاله باليمن كي يحيطوا بالأسود أو يقتلوه. ونجح المسلمون في تأليب اليمن من جديد على الأسود، وقتله زوجه انتقاما منه لقتله زوجها الأوّل ابن بدهان.
[التفكير في غزو الروم]
كان تفكير محمد وكانت عنايته متجهين إذا إلى الشمال بعد عوده من حجة الوداع، وكان من ناحية الجنوب آمنا مطمئنّا. والحق أنه منذ غزوة مؤتة، ومنذ عاد المسلمون قانعين من الغنيمة بالإياب، مكتفين بما أبدى خالد بن الوليد من مهارة في الانسحاب، كان محمد يحسب لناحية الروم حسابها، ويرى ضرورة توطيد سلطان المسلمين على حدود الشام حتى لا يعود إليها الذين جلوا عن شبه الجزيرة إلى فلسطين يناوئون أهلها.
ولهذا جهّز الجيش العرم الذي جهّز حين بلغه تفكير الروم في مهاجمة حدود شبه الجزيرة، وسار هو على رأسه حتى بلغ تبوك، فألفى الروم قد انسحبوا إلى داخل بلادهم وحصونهم من هيبته. لكنه مع هذا ظلّ يقدّر لناحية الشمال أن تثور الذكريات بحماة المسيحية وأصحاب الغلب في ذلك العصر من أهل الإمبراطورية الروميّة، فيعلنوا الحرب على من أجلوا النصرانية عن نجران وغير نجران من أنحاء بلاد العرب. لذلك لم يطل بالمسلمين المقام بالمدينة بعد عودهم من حجّة الوداع بمكة حتى أمر النبيّ بتجهيز جيش عرم إلى الشام، جعل فيه المهاجرين الأولين ومنهم أبو بكر وعمر، وأمّر على الجيش أسامة بن زيد بن حارثة.
[وصية النبي لأسامة]
وكان أسامة بن زيد يومئذ حدثا لا يكاد يعدو العشرين من سنّه؛ فكان لإمارته على المتقدمين الأوّلين من المهاجرين ومن كبار الصحابة ما أثار دهشة النفوس لولا إيمانها الصادق برسول الله. والنبيّ إنما أراد بتعيين أسامة بن زيد أن يقيمه مقام أبيه الذي استشهد في موقعة مؤتة، وأن يجعل له من فخار النصر ما يجري به ذلك الاستشهاد، وما يبعث إلى جانب ذلك في نفس الشباب الهمة والحميّة، ويعوّدهم الاضطلاع بأعباء أجسم التبعات. وأمر محمد أسامة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين على مقربة من مؤتة حيث قتل أبوه، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلا، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتمّ ذلك دراكا حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه. فإذا أتمّ الله النّصر لم يطل بقاءه بينهم، وعاد غانما مظفرا.
وخرج أسامة والجيش معه إلى الجرف (على مقربة من المدينة) يتجهّزون للسفر إلى فلسطين. وإنهم