أن يخلعوا به من المسلمين أحدا، اللهم إلا الشبان الذين يتوهمون أن البحث الحرّ يقتضيهم أن ينكروا ماضيهم، وأن يفتنوا عن الحق بما يزيّن لهم من الأباطيل وأن يؤمنوا بكل مطعن على هذا الماضي، ولو لم يكن لهذا الطعن ما يسوّغه من حقائق العلم والتاريخ.
كنا نستطيع أن نسوق هذه الحجج التي ساقها «السير موير» وغيره من المستشرقين، وأن نأتي بها من التاريخ الإسلامي ومما كتب علماء المسلمين، وأن نردها إلى مراجعها فيها. لكنا آثرنا نقلها عن أحد المستشرقين لنظهر شبابنا المولع بكل آثار الغرب، من غير تمحيص لها، على أن الدقّة في البحث العلمي وحسن القصد إلى الحق وحده جديران بهداية من يسلك سبيلهما مخلصا للحقيقة المجرّدة من كل زيف، وندلّه على أن واجب المحقق أن يدقق في بحثه حتى يصل من الحقيقة إلى غايته دون تأثر بهوى أو شهوة، ومن غير أن يقف به التقليد أو القصور عن بلوغ هذه الغاية. وقد وفّق المستشرقون للحق في بعض الأحيان، وقصر همهم دونه في أحيان أخرى. وكذلك كان أكثرهم في مسائل متصلة بحياة النبي العربي أتيح لنا تمحيصها في هذا الكتاب.
[الطريقة الصحيحة في البحث]
ويجمل بنا في هذا المقام أن نذكر أن واجب الباحث ألّا يثبت مسألة من المسائل وألّا ينفيها، قبل أن يصل من تمحيصه وبحثه إلى الاقتناع الذاتي الصحيح بأنه اطمان كل الطمأنينة إلى الوقوف فيها على الحقيقة كاملة غير مشوبة بشائبة. وشأن المؤرخ في ذلك شأن العالم في الأمور الطبيعية وفي غيرها من العلوم جميعا، وهذا واجبه، تناول كتب المستشرقين أو تناول كتب العلماء المسلمين. وإذا أوجب قصد الحق والمعرفة علينا أن ننقد وأن نمحّص ما خلّف كتّاب العرب والكتّاب المسلمون في الطب والفلك والكيمياء وغيرها من العلوم، فننفي منها ما لا يثبت أمام النقد العلمي ونثبت ما تقرّه قواعد هذا النقد، فقصد الحق والمعرفة يوجب علينا مثل هذه الدقة في أمر التاريخ وإن تعلّق بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام. فالمؤرخ ليس ناقلا فحسب، بل هو أيضا ناقد لما ينقل، ممحّص إياه لمعرفة ما ينطوي عليه من الحق. والنقد سبيل التمحيص والعلم والمعرفة أساس هذا النقد والتمحيص.
أحسبنا، بعد هذا التمحيص الذي نقلناه في شأن القرآن ودقته، في حلّ من إغفال ما جاء في رسالة ذلك المصري المسلم، المؤمن بكل ما يكتب المستشرقون، عن آيات يزعمون أنها أضيفت إلى القرآن أو عن اسم النبيّ وأنه لم يكن قثم، فهذا كلام لم يمله الحق بل أملاه الهوى الذي أملى دعوى تحريف القرآن.
ونعود إلى تفنيد النقطة الأخيرة من رسالة ذلك المصري المسلم. فهو يذكر أن مباحث المستشرقين دلّتهم على أن النبيّ كان يصاب بالصّرع وأن أعراضه كانت تبدو عليه؛ إذ كان يغيب عن صوابه، ويسيل منه العرق، وتعتريه التشنجات وتخرج من فمه الرّغوة، حتى إذا أفاق من نوبته تلا على المؤمنين به ما يقول إنه وحي الله إليه، في حين لم يكن هذا الوحي إلا أثرا من نوبات الصرع.
[فرية الصرع]
وتصوير ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحي على هذا النحو خاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مرّ به أثناءها؛ ولا يذكر شيئا مما صنع أو حلّ به خلالها؛ ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطل. وهذه أعراض الصرع، كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي العربي أثناء الوحي، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به، وكان