للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تطيق النفوس الكبيرة، فإن إقرار العظيم بأنه كاد يفتن ليس مما ألف الناس صدوره حتى من العظماء. إنما يخفى هؤلاء أمثال ذلك من الأمور، ويكتفون بحساب النفس عليه ولو حسابا عسيرا. فهو شيء إذا أكبر من العظمة وأعظم من كل عظيم ذلك الذي يتيح للنفس هذا السمو فتكشف عن الحق كله. ذلك الشيء الذي يسمو على العظمة ويفوق كل عظيم هو النبوة التي تملي على الرسول صدق الإخلاص في إبلاغ رسالة الحق جل شأنه.

[موت أبي طالب وخديجة]

عاد محمد ومن معه من الشّعب بعد تمزيق الصحيفة، وجعل من جديد يذيع دعوته في مكة وفي القبائل التي تجيء إليها في الأشهر الحرم. ومع ما ذاع من أمر محمد بين قبائل العرب جميعا وما كان من كثرة الذين اتّبعوه، لقد ظلّ لا يسلم أصحابه من أذى قريش، ولا يستطيع هو لهم منعا. ولم تمض إلا شهور على نقض الصحيفة حتى فجأت محمدا في عام واحد فاجعتان اهتزت لهما نفسه؛ هما موت أبي طالب وخديجة دراكا. وكان أبو طالب يومئذ قد نيّف على الثمانين. فلما اشتكى وبلغ قريشا أنه موف على ختام حياته، خشيت ما يكون بينها وبين محمد وأصحابه من بعد، وفيهم حمزة وعمر المعروفان بشدتهما وبطشهما، فمشى أشرافها إلى أبي طالب وقالوا له: يا أبا طالب، أنت منا حيث قد علمت وحضرك ما ترى وتخوّفنا عليك. وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه. وجاء محمد والقوم في حضرة عمه. فلما عرف ما جاؤا فيه قال: نعم! كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم! قال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات. قال. تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. قال بعضهم: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا! ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون؛ وانطلقوا. وتوفي أبو طالب والأمر بين محمد وقريش أشدّ مما كان.

ومن بعد أبي طالب توفيت خديجة. خديجة التي كانت سند محمد بما توليه من حبها وبرها، ومن رقة نفسها وطهارة قلبها وقوة إيمانها. خديجة التي كانت تهوّن عليه كل شدة وتزيل من نفسه كل خشية، والتي كانت ملك رحمة، يرى في عينيها وعلى ثغرها من معاني الإيمان به ما يزيده إيمانا بنفسه. وتوفي أبو طالب الذي كان لمحمد حمى وملاذا من خصومه وأعدائه. أي أثر تركت هاتان الفاجعتان الأليمتان في نفس محمد عليه السلام!! إنهما لجديرتان بأن تتركا أقوى النفوس كليمة مضعضعة، يدس إليها اليأس سموم الضعف، ويدفع إليها الأسى والحزن من لواذع الهم المبّرح ما يجعلها تنهد أمامهما ولا تفكر في شيء سواهما.

[قريش يزداد أذاها]

ما لبث محمد بعد أن فقد هذين النصيرين أن رأى قريشا تزيد في إيذائه، وكان من أيسر ذلك أن إعترضه سفيه من سفهاء قريش فرمى على رأسه ترابا أفتدري ما صنع؟ دخل إلى بيته والتراب على رأسه؛ فقامت إليه فاطمة ابنته وجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي. وليس أوجع لنفوسنا من أن نسمع بكاء أبنائنا، وأوجع منه أن نسمع بكاء بناتنا. كل دمعة ألم تسيل من ماقي البنت قطرة حمم تهوي على قلبنا فينقبض انزعاجا، حتى لنكاد من شدة الانزعاج نصيح ألما. وكل أنة حزن تثير في الحشا وفي الكبد أنّات ما أقساها، تختنق لها حلوقنا وتكاد تهمي بالدمع من وقعها عيوننا. وقد كان محمد أبرّ أب ببناته وأحناه عليهن. فماذا تراه صنع لبكاء هذه البنت التي فقدت منذ قريب أمها، ولبكائها هي من أجل ما أصاب أباها؟ لم يزده ذلك كله إلا توجها بقلبه إلى الله وإيمانا بنصره إياه. قال لابنته وعينها تهمي بالدمع: لا تبكي يا بنية! فإن الله مانع أباك. ثم كان يردد:

والله ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.

<<  <   >  >>