هذه هي الحجج التي يسوقها من يقولون بصحة حديث الغرانيق، وهي حجج واهية لا تقوم أمام التمحيص. ونبدأ بدفع حجة المستشرق موير؛ فالمسلمون الذين عادوا من الحبشة إنما دفعهم إلى العود إلى مكة سببان: أولهما أن عمر بن الخطاب أسلم بعد هجرتهم بقليل. وقد دخل عمر في دين الله بالحميّة التي كان يحاربه من قبل بها، لم يخف إسلامه ولم يستتر، بل ذهب يعلنه على رؤوس الملأ ويقاتلهم في سبيله. ولم يرض عن استخفاء المسلمين وتسللهم إلى شعاب مكة يقيمون الصلاة بعيدين عن أذى قريش، بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة وصلى المسلمون معه. هنالك أيقنت قريش أن ما تنال به محمدا وأصحابه من الأذى يوشك أن يثير حربا أهلية لا يعرف أحد مداها ولا على من تدور دائرتها. فقد أسلم من قبائل قريش وبيوتاتها رجال تثور لقتل أيّ واحد منهم قبيلته وإن كانت على غير دينه. فلا مفّر إذا من الالتجاء في محاربة محمد إلى وسيلة لا يترتب عليها هذا الخطر. وإلى أن تتفق قريش على هذه الوسيلة، هادنت المسلمين فلم تنل أحدا منهم بأذى. وهذا هو ما اتّصل بالمهاجرين إلى الحبشة، ودعاهم إلى التفكير في العود إلى مكة.
٢- ثورة الحبشة
وربما تردّدوا في هدا العود لو لم يكن السبب الثاني الذي ثبّت عزمهم؛ ذلك أن الحبشة شبّت بها يومئذ ثورة على النجاشي، كان دينه وكان ما أبدى من عطف على المسلمين بعض ما أذيع فيها من تهم وجهت إليه.
ولقد أبدى المسلمون أحسن الأماني أن ينصر الله النجاشي على خصومه؛ لكنهم لم يكونوا ليشاركوا في هذه الثورة وهم أجانب، ولم يك قد مضى على مقامهم بالحبشة غير زمن قليل. أما وقد ترامت إليهم أنباء الهدنة بين محمد وقريش، هدنة أنجت المسلمين مما كان يصيبهم من الأذى، فخير لهم أن يدعوا الفتنة وراء ظهورهم وأن يلحقوا بأهليهم؛ وهذا ما فعلوه كلهم أو بعضهم. على أنهم ما كادوا يبلغون مكة حتى كانت قريش قد ائتمرت ما تصنع بمحمد وأصحابه، واتّفقت عشائرها وكتبوا كتابا تعاقدوا فيه على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة؛ فلا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم. وبهذا الكتاب عادت الحرب العوان بين الفريقين، ورجع الذين عادوا من الحبشة، وذهب معهم من استطاع اللحاق بهم. وقد وجدوا هذه المرة عنتا من قريش إذ حاولت أن تمنعهم من الهجرة.
ليس الصلح الذي يشير إليه المستشرق موير، هو إذا الذي دعا المسلمين إلى العودة من بلاد الحبشة؛ إنما دعاهم هذه الهدنة التي حدثت على إثر إسلام عمر وحماسته في تأييد دين الله. فتأييد حديث الغرانيق إذا بحجة الصلح تأييد غير ناهض.
[الاحتجاج بالآيات مقلوب]
أمّا احتجاج المحتجين من كتاب السيرة والمفسرين بالآيات:(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) و (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ..) فهو احتجاج أشدّ تهافتا من حجة السير موير ويكفي أن نذكر من الآيات الأولى قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) لنرى أنه إن كان الشيطان قد ألقى في أمنية الرسول حتى لقد كان يركن إليهم شيئا قليلا فقد ثبّته الله فلم يفعل، ولو أنه فعل لأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات. وإذا فالاحتجاج بهذه الآيات احتجاج مقلوب. فقصة الغرانيق