ويطلق المبشرون والمستشرقون لخيالهم العنان حين يتحدّثون من تاريخ محمد في هذا الموضوع، حتى ليصوّر بعضهم زينب ساعة رآها النبيّ وهي نصف عارية أو تكاد، وقد انسدل ليل شعرها على ناعم جسمها الناطق بما يكنّه من كل معاني الهوى، وليذكر آخرون أنه حين فتح باب بيت زيد لعب الهواء بأستار غرفة زينب وكانت ممدّدة على فراشها في ثياب نومها، فعصف منظرها بقلب هذا الرجل الشديد الولع بالمرأة ومفاتنها، فكتم ما في نفسه وإن لم يطق الصبر على ذلك طويلا!! وأمثال هذه الصورة التي أبدعها الخيال كثير، تراه في موير وفي در منجم وفي واشنطن إرفنج وفي لامنس وغيرهم من المستشرقين والمبشرين. ومما يدعو إلى أشدّ الأسف أن هؤلاء جميعا اعتمدوا في روايتهم على ما ورد في بعض كتب السيرة والكثير من الحديث، ثم أقاموا على ما صوّروا قصورا من الخيال في شأن محمد وصلته بالمرأة، واستدلوا على ذلك بكثرة أزواجه حتى بلغن تسعا في القول الراجح، وحتى بلغن أكثر من ذلك في بعض الروايات.
[العظماء لا يخضعون لقانون]
كان في مقدورنا أن نجبه هذه الأقوال جميعا بقولنا: فلتكن صحيحة؛ فماذا فيها مما يطعن على عظمة محمد أو على نبوّته ورسالته؟! إنّ القوانين التي يجري على الناس لا سلطان لها على العظماء، فأولى ألّا يكون لها سلطان على المرسلين والأنبياء. ألم ير موسى عليه السلام خلافا بين رجلين هذا من شيعته وهذا من عدوّه، فوكز الذي من عدوّه فقضى عليه، وهذا قتل محرّم في غير حرب ولا شبه حرب، وهذا مخالف للقانون. مع ذلك لم يخضع موسى للقانون ولم يطعن ذلك في نبوّته ولا في رسالته، ولم يطعن في عظمته. وشأن عيسى في مخالفة القانون أكبر من شأن موسى ومن شأن محمد ومن شأن الأنبياء والمرسلين جميعا. فليس يقف أمره عند بسطة في القوة أو الرغبة، بل خرج بمولده وبحياته على قوانين الطبيعة وسننها جميعا. تمثّل لأمّه مريم روح الرحمن بشرا سويّا، ليهب لها غلاما زكيّا، فعجبت وقالت: أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّا! قال الرسول: إن الله يريد أن يجعله آية للناس، فلمّا جاءها المخاض قالت: يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فنادها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريّا. وأتت به قومها تحمله، فقالوا: لقد جئت شيئا فريّا. فحدثهم عيسى في مهده قال: إني عبد الله ... إلى آخر ما قال. ومهما يكن من إنكار اليهود لهذا كله، ومن نسبتهم عيسى إلى يوسف النّجار نسبة لا يزال بعض العلماء من أمثال رينان يأخذون اليوم بها. فقد كانت عظمة عيسى ونبوّته ورسالته دليل معجزة الله فيه وخرقه لنواميس الكون وسنن الطبيعة وقوانين الخلق من أجله. فمن عجب أن يدعو المسيحيون المبشرون إلى الإيمان بهذا الخروج على سنة الكون في أمر عيسى، وأن يأخذوا محمدا بما هو دونه، وما لا يزيد على أنه سمّو من الخضوع لقانون المجتمع يسمح به لكل عظيم، ويسمح به للملوك ورؤساء الدول الذين تقدّسهم الدساتير وتجعل ذواتهم مصونة لا تمّس.
كان في مقدورنا أن نجبه هذه الأقوال جميعا بهذا الردّ. وكان فيه من غير شك ما يسقط حجة المبشرين ومن ينهجون نهجهم من المستشرقين. لكنا في هذا كنا نجني على التاريخ ونجني على عظمة محمد وجلال رسالته. فهو لم يكن، كما صوّر هؤلاء وأولئك، رجلا يأخذ بعقله الهوى، وهو لم يتزوج من تزوّج من نسائه بدافع من شهوة أو غرام. وإذا كان بعض الكتّاب المسلمين في بعض العصور قد أباحوا لأنفسهم أن يقولوا هذا القول، وأن يقدّموا لخصوم الإسلام عن حسن نية هذه الحجة، فذلك لأنهم انحدر بهم التقليد إلى المادية،