الأوّل. ولذلك كان النسوة يتبرّجن في الجاهليّة الأولى ويبدين من زينتهن ما لا يقف أمره عند بعولتهن، وكنّ يخرجن فرادى ومثنى وزرافات لحاجتهن يقضينها في غوطة الصحراء فليلقاهن الشبّان والرجال وهن يتهادين في جماعتهن، فلا يأبى هؤلاء ولا أولئك أن يتبادلوا أشهى النظرات ومعسول الحديث مما يستريح إليه الذكر وتطمئن إليه الأنثى. وبلغ من أمر هذه الصلة وما وقرت في النفوس، أن لم تأب هند زوج أبي سفيان أن تقول في أشد مواقف الجد والشدة، وهي تحثّ قريشا حين الحرب يوم أحد:
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
ولم يكن الزنا يومئذ بالجريمة ذات الخطر والشأن في بعض القبائل. وكان الغزل بعض معروف العرب جميعا. ولقد ذكر الرواة عن هند هذه، على ما كان لأبي سفيان من مكانة وخطر، أحاديث غرام وهوى لم تغير من مكانتها في قومها ولا بين أهلها. ثم إن المرأة كانت إذا ولدت، ولم يعرف لمولودها أب، لم تأب أن تذكر من لامسها من الرجال لينسب مولودها إلى أيّهم كان أقرب إليه شبها. ولم يكن إلى ذلك الوقت لتعداد الزواج ولا للرق حدّ أو قيد. كان للرجل أن يتزوّج ما شاء، وأن يتسرى ما شاء، وكان لهؤلاء، ولأولئك أن يلدوا ما شاؤا. وكان الأمر في ذلك لا خطر له إلا أن يتضح وتخشى معرّته، وما قد يجر وراءه من أهاجيّ تتبادل لا يدري أحد ما ينجم عنها من خصومة وقتال. هنالك يتبدّل الأمر غير الأمر، وترى ما كانت المودّة قد سترت من قبل من ملاحم الهوى ووثبات الغرام، قد هتكته الخصومة فجعلته سببا لملاحم القتال ووثبات النزال. وإذا شبت الخصومة فلكلّ أن يتقوّل ما شاء وأن يزعم ما يريد. وخيال العربي خضب، بطبيعة عيشه تحت السماء، وتجواله الدائم في طلب الرزق، واضطراره إلى المغالاة وإلى الكذب أحيانا في شؤون التجارة. والعربيّ مولع بالفراغ الذي يغريه بالغزل ويزيد خياله في السّلم والحرب خصبا. فإذا وقف زيد في السّلم يحادث هندا حديث هوى لم يزد على شهيّ اللفظ تساقطه لآلئ الثنايا العذاب، رأيت زيدا هذا حين الخصومة والحرب يرفع عقيرته بهند، وقد لقيها أمامه متجرّدة؛ يقول في نحرها وصدرها ونهدها وخصرها وعجيزتها وما دون ذلك ما شاءت له أفانين الخصومة، واهتياج الخيال الذي لا يعرف في المرأة غير الأنثى وغير ما تفرش من النمارق. ومع ما قضى الإسلام على هذه النفسيّة فقد بقي من آثارها ما نقرؤه في مثل شعر عمر بن أبي ربيعة، وما تأثّر به شعر الغزل في العربية إلى عصور كثيرة، وما لا يزال له أثره، ولو إلى حد قليل، في شعر عصرنا الحاضر.
[المرأة عند العرب وأوروبا في ذلك العصر]
ربما بدأ هذا التصوير للقارئ المعجب بالعرب وحضارتهم، وللمعجّب حتى بعرب الجاهليّة، مشوبا بشيء من الغلوّ. وللقارئ العذر من ذلك، إذ يوازن بين هذه الصورة التي وضعنا أمامه، وما هو واقع بالفعل في عصرنا الحاضر وما نرجو أن تصل إليه صلات الرجل والمرأة في الزواج والطلاق وصلات الزوجين والأبناء.
لكن موازنة كهذه مخطئة جديرة أن تجرّ إلى أفحش الضّلال. إنما يجب أن يوازن بين الجماعة العربية التي صورنا إحدى نواحيها في القرن السابع المسيحي، والجماعات الإنسانية في ذلك العصر. وما أحسبنا نغالي إذا قلنا:
إن الجماعات العربية كانت، مع ما وصفنا من أمرها، خيرا بكثير من الجماعات المعاصرة لها في آسيا وفي أوروبا. ولسنا نقف عند ما كان من ذلك في الصين أو في الهند، فما لدينا من المعلومات عنه قليل لا غناء فيه.
لكن أوروبا الشمالية وأوروبا الغربية كانت يومئذ في ظلمات تبيح لك أن تصوّر من نظام الأسرة فيها ما تريد مما يقرب من أوليات مراتب الإنسانية. وكانت الروم، وهي صاحبة الشرع يومئذ وصاحبة الغلب والسيادة