يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلّهم عما يقولون فيه. فلما دخلوا عليه قال جعفر بن أبي طالب؛ فيه نقول الذي جاء به نبيّنا، يقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودا وخطّ به على الأرض وقال- وقد بلغت منه المسرّة أكبر مبلغ: ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخطّ. وكذلك تبيّن للنجاشي بعد سماع الفريقين أنّ هؤلاء المسلمين يعترفون بعيسى ويقرّون النصرانية ويعبدون الله. ووجد المسلمون في جوار النجاشي أمنا ودعة حتى رجعوا إلى مكة للمرة الأولى ومحمد ما يزال بها. حين بلغهم أن خصومة قريش هدأت. فلما رأوا المكيّين ما يزالون ينزلون به وبأعوانه الأذى عادوا إلى الحبشة، في ثمانين رجلا غير نسائهم وأطفالهم. أفكانت هجرتاهم هاتان لمجرّد الفرار من الأذى، أم كان لهما، ولو في تدبير محمد وحده غاية سياسية يجمل بالمؤرّخ أن يجلوها.
[المسلمون ونصرانية الحبشة]
ومن حق مؤرّخ محمد أن يسأل: كيف أمن محمد على أصحابه هؤلاء أن يذهبوا إلى أرض الحبشة والنصرانية دين أهلها، دين كتاب، ورسولها عيسى يقرّ الإسلام رسالته، ثم لا يخاف عليهم فتنة كفتنة قريش وإن تكن من نوع آخر؟ وكيف أمن هذه الفتنة والحبشة بلاد بها من الخصب ما ليس بمكة؛ فهي أشدّ من قريش فتنة؟ ولقد تنصرّ بالفعل أحد المسلمين الذين ذهبوا إلى الحبشة، فدل تنصّره على أن خوف هذه الفتنة كان جديرا بأن يساور محمدا وقد كان لا يزال ضعيفا، ولا يزال الذين اتّبعوه في أشدّ الريب من قدرته على حمايتهم أو الانتصار به على عدوهم. وأكبر الظن أن يكون ذلك قد دار بخاطر محمد، أن كانت سعة ذهنه وذكاء فؤاده وبعد نظره عدلا لسموّ روحه وكرم نفسه وحسن أدبه ورقة عاطفته. لكنه كان مطمئنّا من هذه الناحية تمام الطمأنينة؛ فقد كان الإسلام يومئذ، وإلى يوم مات صاحب الرسالة، في صفاء جوهره لم تشب نقاءه ولا سمّوه شائبة وكانت نصرانية الحبشة كنصرانية نجران والحيرة والشام قد اندسّ إليها من شوائب الخلاف بين مؤلّهي مريم ومؤلهي عيسى والمخالفين لهؤلاء وأولئك ما لا يخشى معه على أولئك الذين كانوا ينهلون من نبع الرسالة المصفّى.
وفي الحق أن أكثر الأديان ما كانت تتخطى على الزمان أجيالا معدودة حتى يندسّ إليها نوع من الوثنية، إن لم يكن من هذا الطراز الوضيع الشائع يومئذ في بلاد العرب فإنه وثنية على كل حال. والإسلام نزل عدوّ الوثنية اللّدود في جميع صورها وأوضاعها. ثم إن النصرانية تعترف من ذلك التاريخ لطائفة رجال الدين بمكانة خاصة لم يعرفها الإسلام قطّ، وكان يومئذ أشدّ ما يكون عليها سمّوا، ومنها براءة. ثم إنه كان يومئذ وبقي في جوهره دين السمو بالنفس الإنسانية إلى الذروة العليا من السمو. فلم يدع صلة بين المرء وربه غير العمل الصالح والتقوى، وأن يحبّ الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه. لم تبق أصنام ولم يبق كهنة ولم يبق عرّافون ولم يبق شيء يحول دون أن تسمو الروح الإنسانية لتتّصل بالوجود كله صلة خير ومعروف، ليكون جزاؤها عند الله أكبر من عملها أضعافا مضاعفة. والروح! الروح الذي هو من أمر الله! الروح المتّصل بأزل الزمن وأبده! هذا الروح ما عمل صالحا فلا حجاب بينه وبين وجه الله ولا سلطان لغير الله. يستطيع الأغنياء والأقوياء والشريرون أن يعذّبوا الجسد وأن يحولوا بينه وبين ملاذه وشهواته وأن يهلكوه، لكنهم لن يصلوا إلى الروح ما دام صاحبه يريد به سموّا فوق سلطان المادة وفوق سلطان الزمن واتصالا بالوجود كله. إنما يجزى الإنسان عن أعماله يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت يومئذ لا يجزي والدّ عن ولد» ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، ويومئذ لا ينفع الأغنياء مالهم، ولا الأقوياء قوّتهم، ولا المتكلمين