فلا عجب أن ينصرف هؤلاء عن الإمبراطور وعن جنده، وأن يزداد ضياء الدين الجديد أمامهم نورا يهداهم إلى صدق الحقيقة السامية التي يبشر الناس بها. لذلك دخل في الإسلام هذه الفترة ألوف من سليم وعلى رأسهم العباس بن مرداس، ومن أشجع وغطفان الذين كانوا حلفاء اليهود حتى نكب اليهود في خيبر، ومن عبس ومن ذبيان ومن فزارة. فكانت وقعة مؤتة بذلك سببا في استتباب الأمر للمسلمين في شمال المدينة إلى حدود الشام، وفي ازدياد الإسلام عزة وقوة ومنعة.
لكن أثرها في نفوس المسلمين المقيمين بالمدينة كان غير هذا الأثر؛ فهم ما لبثوا حين رأوا خالدا والجيش معه عائدين من تخوم الشام لم ينتصروا على جيش هرقل، أن صاحوا في وجوههم:«يا فرّار، فررتم في سبيل الله» . ولقد بلغ من خجل بعض رجال الجيش أن لزم بيته، كيلا يؤذيه صبيان المسلمين وشبّانهم بتهمة الفرار.
أمّا أثر مؤتة في نفس قريش فكان أنها هزيمة قضت على المسلمين وعلى سلطانهم، حتى لم يبق إنسان يأبه لهم أو يقيم لعهدهم وزنا. فلتعد الأمور كما كانت قبل عمرة القضاء. ولتعد الأمور كما كانت قبل عهد الحديبية. ولتعد قريش حربا على المسلمين ومن في عهدهم من غير أن تخشى من محمد قصاصا.
[نقض قريش عهد الحديبية]
مصلح الحديبية كان قد قضى أنه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعهدهم فليدخل فيه. وكانت خزاعة قد دخلت في عهد محمد، ودخلت بنو بكر في عهد قريش. وكانت بين خزاعة وبني بكر ثارات قديمة سكنت بعد صلح الحديبية وانحياز كلّ من القبيلتين إلى فريق من المتصالحين. فلمّا كانت مؤتة وخيل إلى قريش أن المسلمين قضي عليهم، خيل إلى بني الدّيل من بني بكر بن عبد مناة أن الفرصة سنحت لهم ليصيبوا من خزاعة بثاراتهم القديمة، وحرّضهم على ذلك جماعة من قريش منهم عكرمة بن أبي جهل وبعض سادات قريش وأمدوهم بالسلاح. وبينما خزاعة ذات ليلة على ماء لهم يدعى الوتير إذ فاجأتهم بنو بكر فقتلوا منهم، ففرّت خزاعة إلى مكة ولجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، وشكوا إليه نقض قريش ونقض بني بكر عهدهم مع رسول الله، وسارع عمرو بن سالم الخزاعيّ فغدا متوجها إلى المدينة حتى وقف بين يدي محمد وهو جالس في المسجد بين الناس، وجعل يقصّ ما حدث ويستنصره. قال رسول الله:«نصرت يا عمرو بن سالم» . ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبيّ بما أصابهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم. عند ذلك رأى النبيّ أن ما قامت به قريش من نقض عهده لا مقابل له إلا فتح مكة، وأنه لذلك يجب أن يرسل إلى المسلمين في أنحاء شبه الجزيرة ليكونوا على أهبة لإجابة ندائه من غير أن يعرفوا وجهته بعد هذا النداء.
[مخاوف حكماء قريش]
أمّا حكماء قريش وذوو الرأي فيها فما لبثوا أن قدّروا ما عرّضهم له عكرمة ومن معه من الشبان من خطر.
فهذا عهد الحديبية قد نقض، وهذا سلطان محمد في شبه الجزيرة يزداد بأسا وقوة. ولئن فكر بعد الذي حدث في أن ينتقم لخزاعة من أهل مكة لتتعرضنّ المدينة المقدسة لأشدّ الخطر. فماذا تراهم يصنعون؟ أوفدوا أبا سفيان إلى المدينة ليثبت العقد وليزيد في المدة. ولعل المدة كانت سنتين فكانوا يريدونها عشرا. وخرج أبو سفيان قائدهم وحكيمهم يريد المدينة فلمّا بلغ من طريقه عسفان. لقيه بديل بن ورقاء وأصحابه، فخاف أن يكون قد جاء محمدا وأخبره بما حدث، فيزيد ذلك مهمته تعقيدا. وقد نفى بديل مقابلته محمدا لكنه عرف من