للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) «١» .

وأي شيء خير مما يدعو إليه محمد! أليس هو يدعو إلى الحرية! إلى الحرية المطلقة التي لا حدود لها! إلى الحرية العزيزة على نفس العربي عزة حياته عليه! نعم! أليس يطلق الناس من التقيّد بأية عبادة غير عبادة الله وحده! أليس يحطم كل ما بينهم وبينه من أغلال! لا هبل ولا اللات ولا العزّى ولا نار المجوس ولا شمس المصريين ولا نجوم عبّاد النجوم ولا الحواريون ولا أحد من الإنس أو من الملائكة أو من الجان يحجب بين الله والإنسان. وأمام الله، أمامه وحده لا شريك له، يسأل الإنسان عما قدّم من خير أو شر. وأعمال الإنسان هي وحدها شفيعه. وضميره هو الذي يزن أعماله، وهو وحده صاحب السلطان عليه، وبه يحاسب يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت. أيّة حرية أوسع مدى من هذه الحرية التي يدعو محمد إليها؟! وهو يدعو أبو لهب وأصحابه إلى شيء من مثلها؟! أم هم يدعون الناس لتظل نفوسهم في رقّ وعبودية بما تكدّس عليها من خرافات حجبت عنها نور الحق أو ضياء الهدى؟

[شعراء من قريش]

على أن أبا لهب وأبا سفيان وأشراف قريش وأمجادها، وأشراف المال وأمجاد اللهو، بدؤا يشعرون بما في دعوة محمد من خطر على مكانتهم، فرأوا بادئ الرأي أن يحاربوه بالحط من شأنه، وبتكذيبه فيما يزعم من نبوّته. وكان أوّل ما صنعوا من هذا أن أغروا به شعراءهم: أبا سفيان بن الحارث وعمرو بن العاص وعبد الله بن الزّبعرى، يهجونه ويقارعونه. وتولّت طائفة من شعراء المسلمين الردّ على هؤلاء من غير أن يكون محمد في حاجة إلى مساجلتهم. هنالك تقدّم غير الشعراء يسألون محمدا عن معجزاته التي يثبت بها رسالته؛ معجزات كمعجزات موسى وعيسى. فما باله لا يحيل الصفا والمروة ذهبا، ولا ينزل عليه الكتاب الذي يتحدّث عنه مخطوطا من السماء! ولم لا يبدو لهم جبريل الذي يطول حديث محمد عنه! ولم لا يحيي الموتى ولا يسير الجبال حتى لا تظلّ مكة حبيسة بينها! ولم لا يفجر ينبوعا أعذب من زمزم ماء وهو أعلم بحاجة أهل بلده إلى الماء! ولم يقف أمر المشركين عند التهكم بالمسألة في هذه المعجزات، بل كانوا يزدادون تهكما ويسألونه: لم لا يوحي إليه ربه أثمان السلع حتى يضاربوا على المستقبل. وطال بهم اللّجاج، فردّ الوحي لجاجهم بما أنزل على محمد من قوله تعالى: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) «٢» .

نعم! ما محمد إلا نذير وبشير. فكيف يطالبونه بما لا يقبل العقل وهو لا يطلب إليهم إلا ما يقبله العقل بل يمليه ويحتمه؟! وكيف يطلبون إليه ما تأنف منه النفس الفاضلة وهو لا يطالبهم إلا أن يستجيبوا لوحي النفس الفاضلة؟! وكيف يطلبون إليه المعجزات وهذا الكتاب الذي يوحى إليه، والذي يهدي إلى الحق، معجزة المعجزات؟! وما لهم يطلبون إليه إثبات رسالته بالخوارق ليتردّدوا من بعد ذلك أيتبعونه أم لا يتبعونه، وهذه التي يزعمونها آلهتهم ليست إلا حجارة أو خشبا مسنّدة أو أنصابا قائمة في عرض الفلاة لا تملك لهم نفعا ولا ضرّا، وهم مع ذلك يعبدونها دون أن يطلبوا إليها ما يثبت ألوهيتها؟! ولو أنهم طلبوه لظلّت خشبا أو حجارة لا حياة فيها ولا حركة لها، لا تستطيع لنفسها ضرّا ولا نفعا، ولا تستطيع إذا حطمها محطم عن نفسها دفعا.


(١) سورة التكاثر.
(٢) سورة الأعراف آية/ ١٨٨.

<<  <   >  >>