لذلك ما كاد خالد والجيش معه يدنون من المدينة حتى تلقّاهم محمد والمسلمون معه. وطلب محمد فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه وحمله بين يديه. أما الناس فجعلوا يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرّار، فررتم في سبيل الله! فيقول رسول الله: ليسوا بالفرّار، ولكنهم الكرّار إن شاء الله. ومع هذه التأسية من محمد للعائدين من مؤتة فقد ظلّ المسلمون لا يغفرون لهم انسحابهم وعودهم، حتى كان سلمة بن هشام لا يحضر الصلاة مع المسلمين خشية أن يسمع من كل من رآه: يا فرّار فررتم في سبيل الله. ولولا ما كان بعد ذلك من فعال هؤلاء الذين حضروا مؤتة، ومن فعال خالد بنوع خاص، لظلّت مؤتة معتبرة بعض ما لطّخ به إخوانهم في الدين جبينهم من عار الفرار.
وقد بلغ الألم من نفس محمد منذ علم بقتل زيد وجعفر، وحزّ الأسى في نفسه من أجلهما. لمّا أصيب جعفر ذهب محمد إلى منزله ودخل على زوجه أسماء بنت عميس، وكانت قد عجنت عجينها وغسلت بنيها ودهنتهم ونظفتهم، فقال لها: ائتيني ببني جعفر. فلما أتته بهم تشمّمهم وذرفت عيناه الدمع. قالت أسماء في لهف وقد أدركت ما أصابها: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟
قال: نعم أصيبوا هذا اليوم! وإزدادت عيناه بالدمع تهتانا. فقامت أسماء تصيح حتى اجتمع النساء إليها.
أمّا محمد فخرج إلى أهله فقال: لا تغافلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم.
ورأى ابنة مولاه زيد قادمة فربّت على كتفيها وبكى. وأظهر بعضهم دهشة لبكاء الرسول على من استشهد؛ فقال ما معناه: إنما هي عبرات الصديق يفقد صديقه.
وفي رواية أن جثّة جعفر حملت إلى المدينة ودفنت بها بعد ثلاثة أيام من وصول خالد والجيش إليها. ومن يومئذ أمر الرسول الناس أن يكفوا عن البكاء، فقد أبدل الله جعفرا من يديه اللتين قطعتا جناحين طار بهما إلى الجنة.
[غزوة ذات السلاسل]
أراد محمد بعد أسابيع من عود خالد أن يستردّ هيبة المسلمين في شمال شبه الجزيرة، فبعث عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الشام، ذلك أن أمّا له كانت من قبائل تلك النواحي، فكان من اليسير عليه أن يأتلفهم. فلما كان على ماء بأرض جذّام يقال له السلسل، خاف فبعث إلى النبيّ عليه السلام يستمدّه. فأمدّه بأبي عبيدة بن الجرّاح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر. وخاف محمد أن يختلف عمرو، وهو حديث عهد بالإسلام، مع أبي عبيدة من المهاجرين الأولين؛ فقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. وقال عمرو لأبي عبيدة: إنما جئت مددا لي فأنا على قيادة الجيش. وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هيّنا عليه أمر الدنيا، فقال لعمرو: لقد قال رسول الله: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك. وصلى عمرو بالناس، وتقدّم بالجيش فشتّت جموع أهل الشام الذين أرادوا محاربته، وأعاد بذلك هيبة المسلمين في تلك الناحية.
وفي هذه الأثناء كان محمد يفكر في مكة ومالها. لكنه، كما قدّمنا، كان وفيّا بعهد الحديبية، فأقام ينتظر انقضاء السنتين. وجعل أثناء ذلك يبعث السرايا ليسكن بها ثائرة القبائل التي تحدّثها نفوسها بالثورة. على أنه كان في غير حاجة إلى كبير عناء من هذه الناحية؛ فقد بدأت الوفود ترد إليه من مختلف النواحي تعلن إليه طاعتها وإذعانها. وإنه لكذلك إذ حدث ما كان مقدّمة لفتح مكة، ولاستقرار الإسلام بها استقرارا أسبغ عليها إلى أبد الدهر أعظم التقديس.