ولكن دعاية كهذه لا يمكن أن تقوم وحدها أو تقاوم سحر هذا البيان الذين يؤمنون إليه. فإذا جاء الحق في هذا البيان الساحر فما يمنع الناس أن يؤمنوا به؟ هل كان الإعتراف بالعجز وتبريز الخصم دعاية ناجعة في يوم من الأيام؟! فلتكن لقريش إلى جانب هذه الدعاية دعاية أخرى. ولتلتمس قريش هذه الدعاية عند النّضر بن الحارث. وقد كان هذا النّضر من شياطين قريش، وكان قد قدم الحيرة تعلّم بها أحاديث ملوك الفرس وعباداتها وأقوالها في الخير والشر وفي عناصر الكون. فأخذ كلما جلس محمد مجلسا يدعو فيه قومه إلى الله، ويحذّرهم عاقبة من قبلهم من الأمم التي أعرضت عن عبادة الله يخلف محمدا في مجلسه ويقص على قريش حديث فارس ودينها، ثم يقول: بماذا يكون محمد أحسن حديثا مني؟ أليس يتلو من أساطير الأولين ما أتلو! وكانت قريش تذيع أحاديث النضر من طريق الرواية دعاية على ما ينذر محمد الناس به وما يدعوهم إليه.
[جبر النصراني]
وكان محمد يكثر من الجلوس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر، فكانت قريش تزعم أن جبرا النصرانيّ هذا هو الذي يعلّم محمدا أكثر ما يأتي به، فإذا كان لأحد أن يخرج على دين آبائه فالنصرانية أولى. وروّجت قريش لزعمها هذا، فنزل في ذلك قوله تعالى:(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)«١» .
[الطفيل بن عمرو الدوسي]
بهذه الضروب وأمثالها من الدعاية جعلت قريش تحارب محمدا ترجو أن تبلغ بها منه أكثر مما يبلغ منه الأذى وممن اتّبعه العذاب. على أن قوّة الحق في الصورة الواضحة البسيطة التي صوّر فيها على لسان محمد كانت تعلو على ما يقولون، وما تفتأن لذلك تزداد كل يوم بين العرب انتشارا. قدم الطفيل بن عمرو الدّوسي مكة، وكان رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فمشت إليه قريش تحذّره محمدا وأن قوله كالسحر، يفرّق بين المرء وأهله، بل بين المرء ونفسه؛ وأنهم يخشون عليه وعلى قومه مثل ما أصابهم بمكة، وأنّ الخير في ألّا يكلمه ولا يستمع إليه.
وذهب الطفيل يوما إلى الكعبة، وكان محمد هناك، فسمع بعض قوله فإذا هو كلام حسن؛ فقال في نفسه:
«واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته» او اتّبع محمدا إلى بيته وأظهره على أمره وما دار بنفسه؛ فعرض محمد عليه الإسلام وتلا عليه القرآن، فأسلم وشهد شهادة الحق، ورجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فلبّاه بعضهم وأبطأ بعض؛ وما زال الطفيل بهم يدعوهم سنين متعاقبة حتى أسلم أكثرهم، وانضموا إلى النبيّ بعد فتح مكة وبعد أن بدأ النظام السياسيّ يأخذ في الإسلام صورة معيّنة.
وليس الطفيل الدّوسي إلّا مثلا من كثير. ولم يكن عبّاد الأصنام وحدهم هم الذين يستجيبون لدعوة محمد. قدم عليه وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبره. فجلسوا إليه وسألوه واستمعوا له، فاستجابوا وآمنوا به وصدّقوه، مما غاظ قريشا حتى سبوهم وقالوا لهم:«خيّبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدّقتموه بما قال!» . ولم تثن مقالة قريش هذا الوفد عن متابعة محمد ولم تردّه عن الإسلام، بل زادتهم بالله إيمانا على إيمانهم إذ كانوا نصارى، وكانوا من قبل أن يستمعوا إلى محمد لله مسلمين.