حجر أمهما خديجة؛ وأنه فقد بناته بعد خديجة واحدة بعد الآخرى بعد أن كبرن وصرن أزواجا وأمهات؛ فلم تبق له منهن غير فاطمة. هؤلاء الأبناء والبنات الذين تساقطوا من حوله فدفنهم بيده تحت صفائح الثرى، تركوا في نفسه قرحة ألم اندملت بمولد إبراهيم وأثمرت مكانها رجاء وأملا؛ وكان جلا له أن يمتلئ بهذا الأمل غبطة واستبشارا.
[مرض إبراهيم]
لكن هذا الأمل لم يكن ليطول إلا تلك الأشهر التي ذكرنا. فقد مرض إبراهيم بعدها مرضا خيف منه على حياته، فنقل إلى نخل بجوار مشربة أم إبراهيم، وقامت من حوله مارية وأختها سيرين تمرّضانه. ولم يطل بالطفل المرض. فلما كان في الاحتضار وأخبر النبيّ بأمره، أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه لشدّة ألمه، حتى أتيا إلى النخل بجوار العالية التي تقوم المشربة اليوم مكانها. فوجد إبراهيم في حجر أمه يجود بنفسه، فأخذه فوضعه وقلبه يجف ويده تضطرب وقد ملك الحزن عليه فؤاده، وبدت صورة الألم على قسمات وجهه.
وضعه في حجره وقال:«إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا» . ثم وجم وذرفت عيناه، والغلام يجود بنفسه، وأمه وأختها تصيحان فلا ينهاهما رسول الله!. فلما استوى إبراهيم جثمانا لا حراك به ولا حياة فيه، وانطفأ بموته ذلك الأمل الذي تفتّحت له نفس النبيّ زمنا، زادت عينا محمد تهتانا وهو يقول:«يا إبراهيم لولا أنه أمر حقّ، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأوّلنا، لحزنا عليك أشد من هذا» . وبعد أن وجم هنيهة قال:«تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا يا إبراهيم عليك لمحزونون» .
ورأى المسلمون ما بمحمد من حزن، وحاول حكماؤهم أن يردوه عن الإمعان فيه، فذكّروه بما نهى عنه؛ فقال:«ما عن الحزن نهيت وإنما نهيت عن رفع الصوت بالبكاء. وإنّ ما ترون بي أثر ما في القلب من محبة ورحمة. ومن لم يبد الرحمة لم يبد غيره عليه الرحمة» أو كما قال. ثم إنه حاول كظم حزنه وتبريد لوعته، ونظر إلى مارية وإلى سيرين نظرة عطف، وطلب إليهما أن تهوّنا عليهما قائلا:«إن له لمرضعا في الجنة» . ثم إن أم بردة غسلته- أو غسله الفضل بن عباس، في رواية أخرى- وحمل من بيتها على سرير صغير، وشيعه النبي وعمه العباس وطائفة من المسلمين إلى البقيع حيث دفن بعد أن صلى النبي عليه. فلما تم دفنه أمر محمد بسد القبر ثم سوّى عليه بيده ورشّ الماء وأعلم عليه بعلامة وقال:«إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي. وإن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتفنه» .
ووافق موت إبراهيم كسوف الشمس؛ فرأى المسلمون في ذلك معجزة وقالوا إنها انكسفت لموته.
وسمعهم النبي: أترى فرط حبه لإبراهيم وشديد جزعه لموته قد جعله يتعزى بسماع مثل هذه الكلمة، أو يسكت على الأقل عنها، أو يعذر الناس إذ يراهم مأخوذين بما يحسبونه المعجزة؟ كلا! فمثل هذا الموقف إن لاقى بالذين يستغلّون في الناس جهالتهم، أو لاقى بالذين يخرجهم الحزن عن رشادهم، فهو لا يليق بالنزيه الحكيم، فما بالك بالرسول العظيم!. لذلك نظر محمد إلى الذين ذكروا أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم فخطبهم فقال:«إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة» . أيّة عظمة أكبر من ألّا ينسى الرسول رسالته في أشدّ المواقف التي تملأ نفسه بالفجيعة والهول!. لقد وقف من تناول من المستشرقين هذا الحديث لمحمد موقف الإجلال والإعظام، ولم يستطيعوا كتم إعجابهم وإكبارهم وإعلان عرفانهم بصدق رجل لا يرضى في أدق المواقف إلّا الصدق والحق.