للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويفسر الشيخ محمد عبده هذه الآية فيقول: «إن الآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به. فمن ربّي على لتسليم بغير عقل، والعمل ولو صالحا بغير فقه، فهو غير مؤمن. فليس القصد من الإيمان أن يذل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الاشرّ لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرّته» .

وهذا الذي يقوله الشيخ محمد عبده تفسيرا لهذه الآية قد جاء به القرآن صريحا في آيات كثيرة غيرها. فهو يدعو الناس إلى النظر في الكون ومعرفة أنبائه ليهداهم نظرهم إلى وجود الله ووحدته جلّ شأنه، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) «١» . ويقول تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ. سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.

وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) «٢» .

والدعوة إلى النظر في الكون لاستنباط سننه وللاهتداء إلى الإيمان ببارئه يكررها القرآن مئات المرات في سوره المختلفة، وكلها موجّهة إلى قوى الإنسان العاقلة تدعوه إلى التدبير والتأمل ليكون إيمانه عن عقل وبينة، وتحذّره الأخذ بما وجد آباءه عليه من غير نظر فيه وتمحيص له وثقة ذاتية بمبلغه من الحق.

هذا هو الإيمان الذي دعا الإسلام إليه، وهو ليس هذا الإيمان الذي يسمونه إيمان العجائز، إنما هو إيمان المستنير المستيقن الذي نظر ونظر، ثم فكّر وفكّر، ثم وصل من النظر والتفكير إلى اليقين بالله جلّت قدرته، وما أحسب رجلا نظر بعقله وقلبه ثم لم يهتد إلى الإيمان. وهو كلما أنعم نظره وأطال تأمله وتدبره، وحاول الإحاطة بالزمان والمكان وما تشتمله وحدتهما التي لا نهاية لها من عوالم دائمة المور، شعر بنفسه ذرّة من هذه العوالم تجري كلها على سنن تمسكها، وإلى غاية عند بارئها علمها، وتيقن من ضعفه وقصور علمه إذا لم يستعن على إدراك هذا الوجود بقوّة فوق حسّه وفوق عقله، تصل بينه وبين هذه العوالم جميعا، وتجعله يشعر بمكانته منها. وتلك قوّة الإيمان.

[الإيمان بالله]

فالإيمان إذا شعور روحي يحسّ به الإنسان يملأ نفسه كلما اتصل بالكون وفني في لا نهاية المكان والزمان، وامتثل الكائنات كلها في نفسه، فرآها تجري كلها على سنن تمسكها، ورآها كلّها تسبح بحمد ربها؛ بارئها ومنشئها. أمّا أنه جلّ شأنه ماثل فيها متّصل بها، أو هو مستقلّ بنفسه منفصل عنها، فهذه مضاربات جدليّة


(١) سورة البقرة آية ١٦٤.
(٢) سورة يس من الآية ٣٣ إلى ٤٤.

<<  <   >  >>