تطمع قريشا فيهم. وهذه المداورة هي ما وقع؛ ووقع من رجال كحمزة سريعين إلى الغضب لا تكفي لصدّهم عن القتال وساطة موادع يدعو إلى السلم ما لم تكن المناوشة الحربية ثم الامساك عن القتال في عزّة وكرامة، سياسة مرسومة، وخطة مبيتة يقصد بها إلى درك غايات معينة، هي ما ذكرنا من تخويف اليهود من ناحية، والسعي من ناحية أخرى للاتفاق مع قريش على ترك الدعوة للدين وإقامة شعائره حرة مطلقة من غير حاجة إلى حرب أو قتال.
[الإسلام والقتال]
وليس معنى هذا أن الإسلام كان يومئذ ينكر القتال دفاعا عن النفس ودفاعا عن العقيدة، دفعا لمن يريد فتنة صاحبها عنها. كلا! بل إن الإسلام ليفرض هذا الدفاع. وإنما معناه أن الإسلام. كان يومئذ، كما هو اليوم وكما كان دائما، ينكر حرب الاعتداء:(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)«١» . وإذا كان لدى المهاجرين يومئذ ما يبيح لهم اقتضاء ما حجزت قريش من أموالهم عند هجرتهم فإن دفع فتنة المؤمنين عن دينهم كان أكبر عند الله ورسوله، وكان الغاية الأولى التي شرع من أجلها القتال.
[سرية عبد الله بن جحش]
والحجة على ذلك ما نزل من الآيات في سريّة عبد الله بن جحش الأسديّ، فقد بعثه رسول الله في رجب من تلك السنة الثانية للهجرة ومعه جماعة من المهاجرين، ودفع إليه كتابا وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدا. وفتح عبد الله الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة (بين مكة والطائف) فترصّد بها قريشا وتعلّم لنا من أخبارهم» .
وعلم أصحابه بالأمر وبأنه لا يستكره أحدا منهم، فمضوا معه جميعا خلا سعد بن أبي وقّاص الزّهريّ وعتبة بن غزوان اللّذين هبا يطلبان بعيرا لهما ضل فأسرتهما قريش. وسار عبد الله ومن معه حتى نزلوا نخلة. هناك مرت بهم عير لقريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي؛ وكان يومئذ آخر شهر رجب. وذكر عبد الله بن جحش ومن معه من المهاجرين ما صنعت قريش بهم وما حجزت من أموالهم، وتشاوروا وقال بعضهم لبعض:«والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به. ولئن قتلتموهم لتقتلّنهم في الشهر الحرام» .
وترددوا وهابوا الإقدام، ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم. ورمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وأسر المسلمون رجلين من قريش.
[الفتنة أكبر من القتل]
وأقبل عبد الله بن جحش بالعير والأسيرين حتى قدموا المدينة على الرسول وحجز القوم لمحمد من مغنمهم الخمس. فلما رآهم قال لهم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام؛ ووقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. وأسقط في يد عبد الله بن جحش وأصحابه، وعنّفهم إخوانهم من المسلمين بما صنعوا.
وانتهزت قريش الفرصة فأثارت ثائرة الدعاية ونادت في كل مكان: إن محمدا وأصحابه استحلّوا الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا الرجال. وأجاب المسلمون الذين كانوا بمكة أن إخوانهم في الدين من المهاجرين إلى المدينة إنما أصابوا في شعبان. ودخلت اليهود تريد إشعال نار الفتنة، إذ ذاك