للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العون لتقوية ضعفنا وهدايتنا إلى الحق، أن نرى مبلغ تساوي الناس جميعا في الضعف الذي لا يشدّ من أزره أمام الله مال ولا جاه، وإنما يشدّ من أزره الإيمان الصادق والخضوع لله والبرّ والتقوى.

شتّان ما بين هذه المساواة التامة الصحيحة أمام الله، وبين ما كانت تتحدّث عنه الحضارة الغربية في العصور الأخيرة من المساواة أمام القانون. ولقد بلغت هذه الحضارة الآن أن كادت تنكر هذه المساواة أمام القانون، ولا توجب احترامه على طائفة من الناس. شتان ما بين هذه المساواة أمام الله، مساواة تمسّها حقيقة ملموسة في ساعة الصلاة وتهتدي إليها برأيك الحرّ، وبين مساواة في النضال لكسب المال نضالا يبيح الخديعة والنفاق، ثم ينجو صاحبه من سلطان القانون ما مهر في التحايل عليه وبرع في حسن العبث به.

هذه المساواة أمام الله تدعو إلى الإخاء الصادق؛ لأنها تشعر الناس جميعا بأنهم إخوة في العبودية لخالقهم والعبودية له وحده. وهذا إخاء يقوم على تقدير سليم ونظر حرّ وتدبّر فرضه القرآن. وهل حرية وإخاء ومساواة أعظم من وقوف هذا الجمع أمام الله تعنو له جميعا جباههم، إيّاه يكبّرون وله يركعون ويسجدون، لا تفاوت في ذلك بين أحدهم وأخيه، وكلهم مستغفر تائب مستعين، وليس بين أحدهم وبين الله إلا عمله الصالح وما قدّم من برّ وتقوى. إخاء هذا شأنه يصفي القلوب ويطهرها من قذى المادة، ويكفل للناس السعادة كما يؤدّي بهم إلى إدراك سنة الله في الكون ما هداهم الله بنوره إلى هذا الهدى.

[الصوم]

الناس جميعا ليسوا سواء في القدرة على ما أمر الله به من التقوى. فقد يثقل جسمنا روحنا وتطغى مادّيتنا على إنسانيتنا إذ لم ندم رياضة الروح ولم نتوجه بقلوبنا لله أثناء صلواتنا، واكتفينا بأوضاع الصلاة من ركوع وسجود وتلاوة؛ لذلك وجب جهد الطاقة أن نكفّ عما يجعل الجسم يثقل الروح ويجعل الماديّة تطغى على الإنسانية. ولذلك فرض الإسلام الصوم وسيلة لبلوغ مرتبة التقوى. قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) «١» . والتقوى والبرّ سواء، فالبرّ من اتّقى، والبرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين، وقام بما ورد في الآية التي أسلفنا.

وإذا كان القصد من الصوم ألّا يثقل الجسم الروح، وألّا تطغى مادّيتنا على إنسانيتنا، فالوقوف به عند الإمساك من الفجر إلى الليل والإمعان بعد ذلك في الاستمتاع باللّذّات تفويت لهذا القصد. فالإمعان في الاستمتاع مفسدة لذاته ومن غير صيام، ما بالك به إذا صام المرء أو أمسك طيلة نهاره عن كل طعام وشراب ولذّة، فإذا انقضى وقت الصيام أسلم نفسه لما يحسبها حرمته أثناء النهار من نعمة! إنه إذا ليشهد الله على أنه لم يصم تطهيرا لجسمه وسموّا بإنسانيته، ولم يصم لذلك مختارا إيمانا منه بفائدة الصوم في حياتنا الروحية، بل صام أداء لفرض لا يدرك بعقله ضرورته، ويرى فيه حرمانا له من حرية سرعان ما يستردّها آخر النهار حتى ينهمك في لذاته استعاضة عما حرم بالصوم منها. ومن يفعل ذلك فشأنه كشأن من لا يسرق لأن القانون يحرّم عليه السرقة، لا لأنه يسمو بنفسه عنها ويحرّمها على نفسه وعلى غيره مختارا.

[الصوم ليس حرمانا]

وفي الحق أن النظر إلى الصيام على أنه حرمان وحدّ من حرية الإنسان نظر خاطئ يجعل الصيام عبثا لا محلّ له. إنما الصيام طهور للنفس يوجبه العقل عن اختيار من الصائم كي يستردّ به حرية إرادته وحريّة


(١) سورة البقرة آية ١٨٣.

<<  <   >  >>