كلامهم؛ إنما هي الأعمال وحدها تشهد لصاحبها أو تشهد عليه. ويومئذ يقف هذا الوجود جميعا متسقة وحدته مجتمعا أزله وأبده، لا يظلم ربك أحدا. ولا تجزون إلّا ما كنتم تعملون.
كيف يخاف محمد الفتنة على من علمهم هذه المعاني ومن بثّها في نفوسهم فحلّت منهم في سويداء القلب ومكان العقيدة والإيمان! ثم كيف يخاف عليهم الفتنة ومثله حاضر أمامهم بشخصه المحبوب، حتى ليحبّه أحدهم أكثر من حبّه نفسه وبنيه وأهله. شخصه الذي يضع هذه العقيدة فوق ملك الأرض والسماء والشمس والقمر ويقول لعمه:«والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» . شخصه الذي يضيء بنور الإيمان والحكمة والعدل والخير والحق والجمال، الممتلئ إلى جانب ذلك تواضعا وبرّا ومودة ورحمة. لذلك كان مطمئنّا إلى هجرة أصحابه هؤلاء إلى الحبشة كل الاطمئنان. وكان أمنهم عند النجاشي وسكينتهم إلى دينهم بين قوم لا تربطهم بهم أواصر قربى أو عطف، مما جعل قريشا تشعر بما في إيذائها للمسلمين، وهم منهم وهم أهلوهم وأنسابهم، من ظلم ومن عنت ومن إمعان في الفجور، ومن تحميل كل ألوان الأذى لهؤلاء الذين ارتفعت نفوسهم فوق الأذى، فأصبح لا ينالهم سوء، وأصبحوا يرون في الصبر على البأساء قربى إلى الله ومغفرة منه.
[إسلام عمر بن الخطاب]
وكان عمر بن الخطاب يومئذ رجلا في فتوّة الرجولة، بين الثلاثين والخامسة والثلاثين. وكان مفتول العضل، قويّ الشكيمة، حاد الطبع، سريع الغضب محبّا للهو والخمر، وفيه إلى ذلك برّ بأهله ورقة لهم.
وكان من أشدّ قريش أذى للمسلمين ووقيعة فيهم. فلما رآهم هاجروا إلى الحبشة ورأى النجاشي حماهم، شعر لفراقهم بوحشة، وبما لفراقهم وطنهم من ألم يحزّ في الكبد ويفري المهجة. وكان محمد يوما مجتمعا مع أصحابه الذين لم يهاجروا في بيت عند الصفا، ومن بينهم عمّه حمزة وابن عمه عليّ بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وغيرهم من سائر المسلمين. وعرف عمر اجتماعهم، فقصد إليهم يريد أن يقتل محمدا كي تستريح قريش وتعود إليها وحدتها بعد أن فرّق أمرها وسفّه أحلامها وعاب آلهتها ولقيه نعيم بن عبد الله في الطريق وعرف أمره فقال له:«والله لقد غشتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك وتقيم أمرهم!» ، وكانت فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد قد أسلما. فلما عرف عمر من نعيم أمرهما كرّ راجعا إليهما ودخل البيت عليهما، فإذا عندهما من يقرأ عليهما القرآن. فلما أحسّوا دنوّ داخل عليهم اختفى القارئ وأخفت فاطمة الصحيفة. وسأل عمر: ما هذه الهيمنة التي سمعت؟ فلما أنكرا صاح بهما: لقد علمت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بسعيد.
فقامت فاطمة تحمي زوجها فضربها فشجّها. فهاج إذ ذاك هائج الزوجين وصاحا به: نعم أسلمنا، فاقض ما أنت قاض. واضطرب عمر حين رأى ما بأخته من الدم، وغلبه برّه وعطفه، فارعوى وسأل أخته أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرؤن. فلما قرأها تغيّر وجهه وأحس الندم على صنيعه، ثم اهتزّ لما قرأ في الصحيفة وأخذه إعجازها وجلالها وسموّ الدعوة التي ندعو إليها، فزاد جانب البر غلبة عليه. وخرج وقد لان قلبه واطمأنت نفسه؛ فقصد إلى مجلس محمد وأصحابه عند الصفا. فاستأذن وأعلن إسلامه، فوجد المسلمون فيه وفي حمزة للإسلام منعة وللمسلمين حمّى.
وفتّ إسلام عمر في عضد قريش، فأتمرت مرة أخرى ما تصنع. والحقّ أن هذا الحادث عزّز المسلمين بعنصر جديد قويّ غاية القوة، جعل موقف قريش منهم وموقفهم من قريش غير ما كان، واستتبع ما بين الطرفين سياسة جديدة مليئة بأحداث وتضحيات وقوىّ جديدة أدّت إلى الهجرة وإلى ظهور محمد السياسيّ الى جانب محمد الرسول.