للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[نداء العباس في الناس]

وكان العبّاس بن عبد المطلب رجلا جسيما جهوري الصوت قويّه، فنادى بما أسمع الناس جميعا من كل فجّ: يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة! إن محمدا حيّ فهلمّوا! وكرر العباس النداء حتى تجاوبت في كل جنبات الوادي أصداؤه. وهنا كانت المعجزة: سمع أصحاب العقبة اسم العقبة فذكروا محمدا وذكروا عهودهم وشرفهم. وسمع المهاجرون اسم محمد فذكروا تضحياتهم وذكروا شرفهم. وسمع هؤلاء وأولئك بسكينة محمد وثباته في نفر قليل من المهاجرين والأنصار، كثباته يوم أحد، في وجه هذا العدوّ الزاحف، صوّرت لهم نفوسهم ما قد ينشأ عن خذلانهم إياه من تغلّب المشركين على دين الله. وكان نداء العباس أثناء ذلك ما يزال يدوّي في آذانهم وتهتزّ لأصدائه أوتار قلوبهم.

هنالك تصايحوا من كل صوب: لبّيك لبّيك! وارتدّوا إلى المعركة مستبسلين.

[رجوع المسلمين واستماتتهم]

وبدأت الطمأنينة تعاود محمدا حين رآهم يعودون؛ فقد انحدرت هوازن من مكامنها وأصبحت وجها لوجه مع المسلمين في الوادي. وقد أضاء النهار وطغى النور على عماية الفجر. واجتمع حول رسول الله بضع مئات استقبلوا القبائل وصبروا لهم، وقد أخذ يزداد عددهم وتشتدّ بعودتهم عزائم من خارت من قبل عزائمهم وجعل الأنصار يتصايحون يا للأنصار! ثم تنادوا: يا للخزرج ومحمد ينظر إلى تناحر القوم؛ حتى إذا رأى الصّدام اشتدّ ورأى رجاله تسمو نفوسهم ويطيحون بخصومهم، نادى: الآن حمي الوطيس، إن الله لا يخلف رسوله وعده. ثم طلب إلى العباس فناوله حفنة من الحصى ألقى بها في وجوه العدو: قائلا: شاهت الوجوه.

واندفع المسلمون إلى المعركة مستهينين بالموت في سبيل الله، مؤمنين بأن النصر لا محالة آت، وأن من استشهد منهم فله من النصر أكبر من نصيب من بقي. وكان البلاء شديدا؛ حتى ان هوازن وثقيفا ومن معهم ما لبثوا، حين رأوا كل مقاومة غير مجدية وأنهم معرضون للفناء عن آخرهم؛ أنّ فروا منهزمين لا يلوون على شيء، تاركين وراءهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم غنيمة للمسلمين الذين أحصوها يومئذ اثنين وعشرين ألفا من الإبل وأربعين ألفا من الشاة وأربعة آلاف أوقية من الفضة. أما الأسرى وعددهم ستة آلاف فقد نقلوا محروسين إلى وادي الجعرانة حيث أووا إلى أن يعود المسلمون من مطاردة عدوّهم ومن حصار ثقيف بالطائف.

[تعقب المسلمين عدوهم]

وتابع المسلمون مطاردتهم لعدوهم. وزادهم إغراء بهذه المطاردة أن أعلن الرسول أن من قتل مشركا فله سلبه. وأدرك ابن الدّغنّة جملا عليه شجار «١» ظن به امرأة طمع في سلبها، فأناخ الجمل فإذا شيخ كبير لا يعرفه الفتى هو دريد ابن الصمّة. وسأل ربيعة: ما يريد به؟ قال: أقتلك، وأهوى عليه بسيفه فلم يغن شيئا. قال دريد: «بئس ما سلّحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخّر الرحل. ثم اضرب به، وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أضرب به الرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب والله يوم قد منعت فيه نساءك» . ولمّا رجع ربيعة إلى أمه وأخبرها خبره قالت له: «حرق الله يدك، فإنما قال ذلك ليذكرنا نعمه عليك. فو الله لقد أعتق لك ثلاث أمهات في غداة: أنا وأمي وأمّ أبيك» وتبع المسلمون هوازن حتى بلغوا أوطاسا، وهناك أوقعوا بهم وهزموهم شرّ هزيمة، وسبوا من احتملوا من النساء والأموال وعادوا بهم إلى محمد. أما مالك بن عوف النصري فقد ثبت هنيهة ثم فرّ وقومه مع هوازن حتى افترق عنهم عند


(١) شجار: مركب مكشوف دون الهودج، ويقال له مشجر.

<<  <   >  >>