الله عليكم هذا الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لما رجعوا عن ردّتهم؟
[دفن النبي]
وقد كان للعرب في حفر قبورهم طريقتان: إحداهما لأهل مكة يحفرون القبر مسطّح القاع، والآخرى لأهل المدينة يحفرونه مقوّسا. وكان أبو عبيدة بن الجرّاح يضرح كحفر أهل مكة، وأبو طلحة زيد بن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة. وحار أهل النبي أيّ الطريقتين يسلكون في حفر قبره. فبعث عمه العباس رجلين يدعو أحدهما أبا عبيدة ويدعو الآخر أبا طلحة. فأمّا المبعوث إلى أبي عبيدة فلم يعد به وجاء المبعوث إلى أبي طلحة به، فلحّد لرسول الله على طريقة أهل المدينة فلمّا كان المساء وبعد أن مرّ المسلمون بالجثمان الطاهر وودّعوه الوداع الأخير، اعتزم أهل النبيّ دفنه، فانتظروا حتى مضى هزيع من الليل، وفرشوا القبر برداء أحمر كان النبيّ يلبسه، ثم أنزله الذين تولّوا غسله إلى المقرّ الأخير لرفاته، وبنوا فوقه باللبن وأهالوا التراب فوق القبر. قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى سمعنا صوت المساحى من جوف الليل، وقالت فاطمة مثل هذا القول. وكان دفنه ليلة الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الأول، أي بعد يومين من اختياره الرفيق الأعلى.
[عائشة وحجرة القبر]
وظلّت عائشة من بعد ذلك تعيش بمنزلها في الحجرة المجاورة لحجرة القبر سعيدة بهذا الجوار الكريم.
ولمّا مات أبو بكر دفن إلى جوار النبيّ، كما دفن عمر إلى جواره من بعد. ويروى أن عائشة كانت تزور حجرة القبر سافرة إلى أن دفن عمر بها إذ لم يكن بها يومئذ غير أبيها وزوجها. فلما دفن عمر كانت لا تدخل إلا محتجبة لابسة كامل ثيابها.
ولم يكد المسلمون يفرغون من جهاز رسول الله ودفنه حتى أمر أبو بكر أن ينفذ جيش أسامة لغزو الشام تنفيذا لما كان قد أمر رسول الله به. وقد أبدى بعض المسلمين من الاعتراض على ذلك ما أبدوا أيّام مرض النبيّ. وانضم عمر إلى المعترضين ورأى ألا يشتّت المسلمون، وأن يحتفظ بهم في المدينة مخافة أمر قد يدعو إليهم. لكن أبا بكر لم يتردّد لحظة في تنفيذ أمر الرسول، ورفض أن يستمع إلى قول الذين أشاروا بتعيين قائد أسنّ من أسامة وأكثر منه في الحرب دربة. وتجهّز الجيش عند الجرف وأسامة على رأسه، وخرج أبو بكر يودّعه. هنالك طلب إلى أسامة أن يعفى ابن الخطاب من الذهاب معه ليبقى بالمدينة يشير على أبي بكر. ولم تمض عشرون يوما على مسيرة الجيش حتى أغار المسلمون على البلقاء، وحتى انتقم أسامة للمسلمين ولأبيه الذي قتل بمؤتة أشدّ انتقام. وقد كانت صيحة الحرب في تلك الأيام المظفّرة:«يا منصور أمت» . وكذلك نفّذ أبو بكر ونفّذ أسامة أمر النبي، وعاد بالجيش إلى المدينة ممتطيا الجواد الذي قتل أبوه بمؤتة عليه، يتقدمه اللواء الذي عقده رسول الله بيده.
[الأنبياء لا يورثون]
ولمّا قبض النبيّ طلبت فاطمة ابنته إلى أبي بكر أن يردّ عليها ما ترك من أرض بفدك وخيبر. لكن أبا بكر أجابها بقول أبيها:«نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» . ثم قال لها: فأمّا إن كان أبوك قد وهب لك هذا المال فإني أقبل كلمتك في ذلك وأنفذ ما أمر به، وأجابت فاطمة بأن أباها لم يفض إليها بشيء من ذلك، وإنما أخبرتها أمّ أيمن بأن ذلك كان قصده. عند ذلك أصرّ أبو بكر على استبقاء فدك وخيبر وردّهما إلى بيت مال المسلمين.