ويزيد هذا البعض دليله تأييدا بأن النبيّ خرج بنفسه على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة، واستعمل عليها سعد بن عبادة، وسار إلى الأبواء حتى بلغ ودّان يريد قريشا وبني ضمرة؛ فلم يلق قريشا وحالفته بنو ضمرة، وأنه بعد شهر من ذلك خرج على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى بواط يريد قافلة يقودها أمية بن خلف عدتها ألفان وخمسمائة بعير يحميها مائة محارب فلم يدركها، أن اتخذت طريقا غير طريق القوافل المعبّد. وأنه بعد شهرين أو ثلاثة من عودته من بواط من ناحية رضوي استعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد وخرج في أكثر من مائتين من المسلمين حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادي الأولى وليالي من جمادي الآخرة من السنة الثانية للهجرة (أكتوبر سنة ٦٢٣ م) ينتظر مرور قافلة من قريش على رأسها أبو سفيان ففاتته. وكسب من رحلته هذه أن وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، وأنه ما كان يرجع إلى المدينة ليقيم بها عشر ليال حتى أغار كرز بن جابر الفهري، من المتصلين بمكة وبقريش، على إبل المدينة وأغنامها، فخرج النبي في طلبه، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وتابع مسيره حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه. وهذه هي التي يطلق عليها كتّاب السيرة اسم غزوة بدر الأولى.
[رأي المؤرخين في الغزوات الأولى]
أفلا يقوم هذا كله دليلا على أن المهاجرين فكروا وفكر محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم وفي مبادأتهم بالعداوة والحرب؟ وهو على أقل تقدير- في رأي هؤلاء المؤرخين- يشهد بأنهم قصدوا من إرسال سراياهم وغزواتهم المبدئية هذه إلى غايتين؛ الأولى: الوقوع على قوافل قريش في ذهابها إلى الشام أو عودتها منها حين رحلة الصيف، واحتمال ما يمكن احتماله من الأموال التي تذهب هذه القوافل وتعود بالتجارة فيها.
والثانية: أخذ الطرق على قوافل قريش في رحلتها إلى الشام بعقد الموادعات والأحلاف مع القبائل المتّصلة ما بين المدينة وشاطئ البحر الأحمر، بما يسهّل على المهاجرين مهاجمة هذه القوافل دون أن تلقى في جوار هاته القبائل ما يحميها من محمد وأصحابه، حماية تمنع أخذ المسلمين رجالها ومالها أخذ عزيز مقتدر. وهذه السّرايا التي عقد النبي عليه السلام ألويتها لحمزة ولعبيدة بن الحارث ولسعد بن أبي وقاص وهذه المخالفات التي عقدها بنو ضمرة وبنو مدلج وغيرهم، تؤيد الغاية الثانية وتشهد بأن أخذ طريق الشام على أهل مكة كان بعض ما قصد إليه المسلمون.
[رأينا في الغرض من السرايا]
أما أنهم بهذه السرايا، التي بدأت بعد ستة أشهر من مقامهم بالمدينة والتي اشترك فيها المهاجرون وحدهم، كانوا يقصدون حرب قريش وغزو قوافلها، فذلك ما يقف الإنسان منه موقف التردد والتفكير. فلم تكن سرية حمزة لتزيد على ثلاثين رجلا من المهاجرين، ولم تزد سرية عبيدة على ستين، وكانت سرية سعد لا تتجاوز ثمانية نفر على قول، وعشرين على قول آخر. وكان الموكلون بحماية قوافل قريش عادة أضعاف هذه الأعداد، وقد زادتهم قريش عددا وعدة منذ أقام محمد بالمدينة وبدأ يحالف القبائل التي بها والقريبة منها. ومهما يكن من بأس حمزة. وعبيدة وسعد ممن كانوا يرأسون سرايا المهاجرين، فإن عدة من معهم لم تكن لتشجعهم على الحرب، مما جعلهم يكتفون منها جميعا بتهديد قريش دون قتالها إلا ما قيل عن السهم الذي رمى به سعد.
[تعرض تجارة قريش للخطر]
ثم إن قوافل قريش كان يحميها من أهل مكة من تصلهم بالكثيرين من المهاجرين أواصر القربى وصلات