أيها الناس. فو الله لو أنّ لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذّابا. ثم إنه خمّس الغنيمة وأعطى من خمسه الذين كانوا إلى أيّام أشدّ الناس عداوة له نصيبا على نصيبهم، فأعطى مائة من الإبل كلّا من أبي سفيان وابنه معاوية والحارث بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى والأشراف ورؤساء العشائر ممن تألّف بعد فتح مكة؛ وأعطى خمسين من الإبل من كانوا دون هؤلاء شأنا ومكانة. وقد بلغ عدد الذين أعطاهم عشرات. وبدا محمد يومئذ غاية من السماحة والكرم مما جعل أعداء الأمس تنطلق ألسنتهم بجميل الثناء عليه. ولم يدع لأحد من هؤلاء المؤلفة قلوبهم حاجة إلا قضاها. أعطى عبّاس بن مرداس عددا من الإبل لم يرضه وعاتبه على أن فضّل عليه عيينة والأقرع وغيرهما. فقال النبيّ اذهبوا به فاقطعوا عنّي لسانه. فأعطوه حتى رضي وكان ذلك قطع لسانه.
[الأنصار وعطاء المؤلفة قلوبهم]
على أن هذا الذي تألّف به النبيّ قلوب من كانوا إلى أمس أعداءه، قد جعل الأنصار يتحدّث بعضهم إلى بعض فيما صنع الرسول ويقول بعضهم لبعض:«لقى والله رسول الله قومه» . ورأى سعد بن عبادة أن! يبلغ النبيّ مقالة الأنصار ويؤيدهم فيها، فقال له النبيّ: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة فجمعهم سعد وأتاهم النبي، فدار الحوار الآتي:
محمد- يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟! ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟
الأنصار- بلى! الله ورسوله أمنّ وأفضل.
محمد- ألّا تجيبونني يا معشر الأنصار؟!
الأنصار- بماذا نجيبك يا رسول الله ولرسوله المنّ والفضل.
محمد- أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدّقتم، أتيتنا مكذّبا فصدّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فاويناك، وعائلا فاسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة «١» من الدنيا تألّفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم!. فو الذي نفس محمد بيده لولا العرة لكنت أمرأ من الأنصار. ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
قال النبيّ هذه العبارات وكله تأثّر، وكله فيض من الحب لهؤلاء الذين بايعوه ونصروه واعتزوا به وأعزّوه، حتى بلغ من تأثره أن بكى الأنصار وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظّا.
وكذلك أظهر النبيّ رغبة عن هذا المال الذي غتم في حين والذي بلغ ما لم يبلغه فيء من قبل. أظهر رغبته عنه، وجعله وسيلة تأتلف بها قلوب الذين كانوا، إلى أسابيع قليلة، مشركين ليروا في الدين الجديد سعادة الدنيا والآخرة. وإذا كان محمد قد عنّاه أمر هذا المال في قسمته حتى لقد كاد المسلمون يتهمونه، وإذا هو كان قد أغضب الأنصار بما أعطى المؤلّفة قلوبهم، فإنه قد أظهر من العدل ومن بعد النظر ومن حسن السياسة ما مكّنه من أن يعود بهذه الألوف من العرب وكلهم راضية نفسه، مطمئن قلبه، مستعدّ لأن يهب حياته في سبيل الله.