في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام ومنهم من ترضعه؛ وكان عمير ضعيف البصر، فجسّها بيده فوجده الصبي ترضعه فنحّاه عنها، ثم وضع سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها. ورجع عمير من عند النبي بعد أن أخبره الخبر، فوجد بنيها في جماعة يدفنونها، فأقبلوا عليه فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟
قال:«نعم! فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. فو الذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي حتى أموت أو أقتلكم» . وقد كان من أثر جرأة عمير هذه أن ظهر الإسلام في بني خطمة، وكانت عصماء زوج رجل منهم، فأظهر منهم من كان يخفي إسلامه وانضم إلى صف المسلمين وسار معهم.
[مقتل كعب بن الأشرف]
ويكفي أن نضيف إلى هذين المثلين مصرع كعب بن الأشرف، وهو الذي قال حين علم بمقتل سادات مكة:«هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها» وهو الذي ذهب إلى مكة لما تيقن الخبر يحرّض على محمد وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب؛ وهو الذي رجع بعد ذلك إلى المدينة فجعل يشبّب بنساء المسلمين. وأنت تعرف طبائع العرب وأخلاقها، وتعرف مبلغ تقديرهم للعرض وثورتهم من أجله. وقد بلغ غيظ المسلمين أنهم أجمعوا على قتل كعب، واجتمع في ذلك عدة منهم؛ وذهب إليه أحدهم يستدرجه بالطعن على محمد إذ يقول له: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمونا على قوس واحدة، وقطعت. عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس. ولمّا أنس إلى كعب وأنس إليه كعب طلب إليه مالا لنفسه ولجماعة من أصحابه على أن يرهنوه دروعهم؛ ورضي كعب على أن يجيئوه من بعد. وإنه لفي داره على بعد من المدينة إذ ناداه صدر الليل أبو نائلة (أحد المؤتمرين به) فنزل إليه على رغم تحذير عروسه إيّاه النزول في مثل هذه الساعة من الليل. وسار الرجلان حتى التقيا بأصحاب أبي نائلة وكعب آمن لا يخافهم. وخرج القوم يتماشون حتى مشوا ساعة بعدوا بها عن دار كعب وهم يتجاذبون أطراف الحديث، ويذكرون من حالهم وما وصلوا إليه من شدّة ما يزيد في طمأنينة كعب.
وفيما هم يسيرون كان أبو نائلة يضع يده في رأس كعب ويشمّها ويقول: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قطّ. ولما لم تبق لدى كعب شبهة فيهم، عاد أبو نائلة فوضع يده على شعر كعب ثم أخذ بفوديه وقال: اضربوا عدوّ الله فضربوه بأسيافهم حتى مات.
[مخاوف اليهود وعدوانهم]
زاد هذا الحادث في مخاوف اليهود، فلم يبق منهم إلا من يخاف على نفسه. مع ذلك لم يسكتوا عن محمد ولا عن المسلمين حتى فاضت النفوس أيّ فيض. قدمت امرأة من العرب إلى سوق اليهود من بني قينقاع ومعها حلية جلست إلى صائغ منهم بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها وهي تأبى، فجاء يهودي من خلفها في سرّ منها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت؛ فوثب رجل من المسلمين على الصائغ، وكان يهوديّا، فقتله وشدّدت اليهود على المسلم فقتلوه. فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وطلب محمد إلى هؤلاء أن يكفوا عن أذى المسلمين وأن يحافظوا عهد الموادعة أو ينزل بهم ما نزل بقريش. فاستخفّوا بوعيده وأجابوه:«لا يغرّنّك يا محمد أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس» . لم يبق بعد ذلك إلّا مقاتلتهم أو يتعرّض المسلمون ويتعرّض سلطانهم بالمدينة للتداعي، ثم يصبحوا أحدوثة قريش وقد جعلوا قريشا بالأمس أحدوثة العرب.