أقوى سند يجعلنا نستهين بكل شيء ونضحي عن طيب خاطر في سبيله بالمال والراحة والحرية والحياة، وإذا كان الأذى من طبعه أن يزيد الإيمان استعارا، فإن في استمرار الأذى والتضحية ما يشغل المؤمن عن دقة التأمل التي تزيد في أفق المؤمن سعة، وفي إدراكه للحق قوّة وعمقا. وقد أمر محمد الذين اتّبعوه من قبل أن يهاجروا إلى الحبشة المسيحية أن كانت بلاد صدق، وكان بها ملك لا يظلم عنده أحد؛ فأولى بالمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب وأن يتقوّوا بأصحابهم المسلمين فيها، وأن يتازروا بذلك على دفع ما يمكن أن يصيبهم من شرّ؛ ليكون لهم بذلك من الحريّة في تأمل دينهم والجهر به ما يكفل إعلاء كلمته، كما يكفل نجاح الدعوة إليه؛ دعوة لا تعرف الإكراه، بل أساسها الرفق والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن.
وكان الحاجّ من يثرب في هذه السنة- سنة ٦٢٢ ميلادية- كثيرين بالفعل وكان من بينهم خمسة وسبعون مسلما، منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان. فلما عرف محمد مقدمهم، فكّر في بيعة ثانية لا تقف عند الدعوة إلى الإسلام على نحو ما ظلّ هو يدعو إليه ثلاث عشرة سنة متتابعة في رفق وهوادة مع احتمال صنوف التضحية والألم جميعا، بل تمتدّ إلى ما وراء ذلك، وتكون حلفا يدفع به هؤلاء المسلمون عن أنفسهم الأذى بالأذى والعدوان بالعدوان. واتّصل محمد سرّا بزعمائهم وعرف حسن استعدادهم، فواعدهم أن يلتقوا معه عند العقبة جوف الليل في أوسط أيّام التّشريق. وكتم مسلمو يثرب من معهم من المشركين أمرهم، وانتظروا حتى إذا مضى ثلث الليل من يوم موعدهم مع النبيّ خرجوا من رحالهم يتسللون تسلل القطا مستخفين حذر أن ينكشف سرّهم. فلما كانوا عند العقبة تسلّقوا الشعب جميعا وتسلقت المرأتان معهم، وأقاموا ينتظرون مقدم صاحب الرسالة.
وأقبل محمد ومعه عمه العبّاس بن عبد المطلب، وكان ما يزال على دين قومه، لكنه عرف من قبل من ابن أخيه أن في الأمر حلفا، وأن الأمر قد يجرّ إلى حرب، وذكر أنه قد تعاهد مع من تعاهد من بني المطلب وبني هاشم أن يمنعوا محمدا، فليستوثق لابن أخيه ولقومه حتى لا تكون كارثة يصلى بنو هاشم وبنو المطلب نارها، ثم لا يجدون من هؤلاء اليثربيين نصيرا. لذلك كان العباس أوّل من تكلم فقال: يا معشر الخزرج، إنّ محمدا منّا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده. وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له فيما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك. وإن كنتم مسلميه وخاذليه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه.
قال اليثربيون- وقد سمعوا كلام العباس:
- سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فأجاب محمد بعد أن تلا القرآن ورغّب في الإسلام:
[الحوار قبل البيعة]
- أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
وكان البراء بن معرور سيد قومه وكبيرهم، وكان قد أسلم بعد العقبة الأولى وقام بكل ما يفرض الإسلام، إلا أنه جعل قبلة صلاته الكعبة، وكان محمد والمسلمون جميعا يومئذ ما تزال قبلتهم المسجد الأقصى. ولما اختلف هو وقومه واحتكموا إلى النبيّ أول وصولهم إلى مكة، رد محمد البراء عن اتخاذ الكعبة