للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) «١» .

وظاهر ما في قتل الأخ أخاه من استئثار وحسد وقسوة طبع وغلظ كبد. لكن الأخ التقيّ الذي يخاف الله لم يرد، حين قال له أخوه: لأقتلنّك، أن يستغفر الله له، بل قال له: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وهذه غلبة الطبيعة الإنسانية ومنطق القصاص على السموّ الروحي وجمال العفو.

وكثر بنو آدم على الأرض وأرسل الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين. لكنّهم أصرّوا على ضلالهم، وبقيت حياتهم الروحية جامدة وقلوبهم مقفلة. أرسل نوحا إلى قومه فنادى فيهم: أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم، فكذّبه قومه وما آمن معه إلا قليل. وتواترت النبوّات بعد نوح، وتواترت الرسالات بالدعوة إلى الله وحده؛ فتغلب جمود الناس عليها وقعدت عقولهم دون إدراكها واتخذوا من مظاهر الخلق آلهة. وكلما جاءهم رسول من عند ربهم ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون. لكن جمودهم تزعزع بتواتر الرسالات التي كانت بذورا صالحة أبطأ نباتها، غير أنها تركت مع ذلك أثرها. وهل ذهبت كلمة الحق ضياعا أو هباء في يوم من الأيام!. ولئن دفع الغرور الناس لينأوا بجانبهم عنها وليستهزئوا أكثر الأمر بصاحبها لقد كانوا يستعيدونها إذا خلوا إلى أنفسهم يسألونها عن مبلغ الحق فيها. وكان الذين يدركون ما تنطوي عليه من حق قلة وكانوا يستكبرون.

كانت مصر على عهد الفراعنة يؤمن كهنتها بالوحدانية، ويعلّمون الناس غيرها ويعددون لهم آلهتهم.

وإنما دعاهم إلى ذلك حرصهم على الاحتفاظ بسلطانهم على الناس وجاههم فيهم؛ حتى لقد حاربوا موسى وأخاه هارون حين جاآ يدعوان فرعون إلى الله ويطلبان أن يرسل معهما بني إسرائيل.

ويذكر القرآن نبأ هؤلاء الأنبياء الذين تعاقبوا على الإنسانية أجيالا طوالا فظلّت ممعنة في الضلال إلا قليلا هدى الله إلى الحق. وفي قصص الأنبياء ظاهرة يقف عندها النظر، ويحسن بنا، لبيانها، أن نرجع إلى عهد موسى وعيسى وما كان بعدهما من رسالة محمد عليه السلام.

[حكم العقل والإيمان بالخوارق]

هذه الظاهرة هي الانفصال أو ما يشبهه أول الأمر بين حكم العقل ومنطقه والإيمان القائم على المعجزات والخوارق. فقد آزر الله كلا من أنبيائه بمعجزة لقومه حتى يصدقوه، ولم يصدقه مع ذلك منهم إلا القليل. ولم تكفهم عقولهم ومنطقها ليدركوا أن الله خلق كل شيء، وأنه الملك الحق لا إله إلا هو.

ولمّا قضى الله أن يبعث موسى من مصر، خرج منها قبل بعثه خائفا يترقب حتى ورد ماء مدين وتزوّج من أهلها. فلما أذن الله له أن يعود ( ... نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) «٢» . ولم يؤمن سحرة فرعون بدعوة موسى حتى لقفت عصاه ما صنعوا. إذ ذاك ألقي السحرة سجّدا قالوا: آمنّا بربّ هارون وموسى. ومع ذلك ظلّ بنو إسرائيل في غيهم حتى قالوا لموسى أرنا الله جهرة. ولما قبض موسى عادوا يذكرون عبادة العجل. وجاءهم


(١) سورة المائدة الآيات من ٢٧- ٣٢.
(٢) سورة القصص آيات من ٣٠ إلى ٣٢.

<<  <   >  >>