للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم؛ فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم. وتشاورت بنو النضير في مقالة ابن أبيّ وهم أشدّ ما يكونون حيرة؛ فمنهم من لم يكن له بابن أبيّ أية ثقة. ألم يعد بني قينقاع من قبل مثل ما يعد بني النّضير اليوم، فلمّا جدّ الجدّ تخلّى عنهم وولّى مدبرا؟ وهم يعلمون أن بني قريظة لا ينصرونهم لما بينهم وبين محمد من عهد. ثم إنهم إن جلوا عن ديارهم إلى خيبر أو إلى محلّة قريبة، استطاعوا أن يعودوا حين يثمر نخيلهم إلى يثرب، يجنون ثمره ويعودون أدراجهم فلا يكونون قد خسروا كثيرا. قال كبيرهم حييّ بن أخطب: كلا بل أنا مرسل إلى محمد: إنّا لا نخرج من ديارنا وأموالنا، فليصنع ما بدا له، وما علينا إلا أن نرمّ حصوننا ندخل إليها ما شئنا، وندرّب أزقتنا وننقل الحجارة إليها، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماؤنا لا ينقطع، ولن يحصرنا محمد سنة كاملة. وانقضت الأيّام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم.

[حصار بني النضير]

فأخذ المسلمون السلاح وساروا إليهم فقاتلوهم عشرين ليلة، وكانوا أثناءها إذا ظهروا على الدرب أو الديار تأخر اليهود إلى الديار التي من بعدها بعد تخريبهم إيّاها. ثم أمر محمد أصحابه أن يقطعوا نخل اليهود وأن يحرّقوه حتى لا تبقى اليهود في شدّة تعلقها بأموالها تتحمّس للقتال وتقدم عليه. وجزع اليهود ونادوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! وفي ذلك قوله تعالى: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) «١» .

[جلاء اليهود عن المدينة]

وعبثا انتظر اليهود نصر ابن أبيّ أو تقدّم أحد من العرب لنجدتهم، حتى لم يبق لديهم ريبة في سوء مصيرهم إذا أصروا على متابعة القتال. فلمّا ملأ اليأس قلوبهم رعبا، سألوا محمدا أن يؤمّنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة. فصالحهم محمد على أن يخرجوا منها، ولكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاؤا من مال أو طعام أو شراب، وليس لهم غيره. واحتمل اليهود وعلى رأسهم حييّ بن أخطب، فنزل خيبر منهم من نزل وسار آخرون إلى أذرعات بالشام، وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح بلغ خمسين درعا وثلثمائة وأربعين سيفا، ثم كان ما خلّت اليهود من الأرض التي كانوا يملكون خير ما غنم المسلمون. على أنّ هذه الأرض لم تعتبر أسلاب حرب، ولذلك لم نقسم بين المسلمين، بل كانت لرسول الله خاصّة يضعها حيث يشاء. وقد قسمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار بعد أن استبقى قسما خصصت غلّته للفقراء والمساكين. وبذلك أصبح المهاجرون في غنى عن معونة الأنصار، وأصبح لهم مثل ثروتهم. ولم يشترك في القسمة من الأنصار إلا أبو دجانة وسهل بن حنيف؛ فقد ذكرا فقرا فأعطاهما محمد كما أعطى المهاجرين. ولم يسلم من يهود بني النّضير غير رجلين أسلما على أموالهما فأحرزاها.

ليس من العسير أن يقدّر الإنسان قيمة نصر المسلمين وإجلاء بني النّضير عن المدينة بعد الذي قدّمنا من تقدير الرسول عليه السلام لما كان يخلقه بقاؤهم من تشجيع عوامل الفتنة، ومن دعوة المنافقين إلى أن يرفعوا رؤسهم كلما أصاب المسلمين شر، ومن التهديد بالحرب الأهلية إذا غزا المسلمين غاز من الأعداء. وفي جلاء بني النضير نزلت سورة الحشر، وفيها: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ


(١) سورة الحشر آية ٥.

<<  <   >  >>