لفي جهازهم إذ حال مرض رسول الله، ثم اشتداد المرض به، دون مسيرهم. وقد يسأل إنسان: كيف يحول مرض رسول الله دون مسيرة جيش أمر بجهازه وسفره؟ لكن مسيرة جيش إلى الشام يقطع البيد والصحاري أياما طويلة ليست بالأمر الهين ولم يكن يسهل على المسلمين، والنبي أحبّ إليهم من أنفسهم، أن يتركوا المدينة وهو يشكو المرض وهم لا يعلمون ما وراء هذا المرض. ثم إنهم لم يعرفوا قط من قبل أنه شكا مرضا ذا بال، فهو لم يصب من المرض بأكثر من فقد الشهيّة في السنة السادسة من الهجرة حين قيل كذبا إن اليهود سحروه، ومن ألم أصابه واحتجم من أجله حين أكل من الشاة المسمومة في السنة السابعة من الهجرة. ثم إن حياته وتعاليمه كانت تنأى به وبكل من يتّبعها عن المرض. فهذا الزّهد في الطعام ونيل القليل منه، وهذه البساطة في الملبس والعيش، وهذه النظافة التامة نظافة يقتضيها الوضوء ويحبها محمد ويحرص عليها، حتى ليقول: إنه لولا خيفته أن يشق على قومه لفرض عليهم السّواك في اليوم خمس مرات، وهذا النشاط الدائم؛ نشاط العبادة من ناحية ونشاط الرياضة من ناحية أخرى. وهذا القصد في كل شيء، وفي الملذات قبل كل شيء. وهذا السموّ عن عبث الأهواء، وهذه الرفعة النفسيّة لا تدانيها رفعة، وهذا الاتصال الدائم بالحياة وبالكون في خير صور الحياة وأدق أسرار الكون- هذا كله يجنب صاحبه المرض ويجعل الصحة بعض حظه. فإذا كان سليم التكوين، قوي الخلق، كما كان محمد، جفاه المرض ولم يعرف إليه سبيلا. فإذا مرض كان طبيعيّا أن يخاف محبوه وأصحابه، وكان طبيعيّا أن يخافوا وهم قد رأوا ما عاناه من مصاعب الحياة خلال عشرين سنة متتابعة.
فهو منذ بدأ يجهز بدعوته في مكة مناديا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وبترك الأصنام مما كان يعبد آباؤهم، قد لقى من العنت ما تنوء به النفوس مما شتّت عنه أصحابه الذين أمرهم فهاجروا إلى الحبشة، وما اضطرّه للاحتماء بشعاب الجبل حين أعلنت قريش قطيعته. وهو حين هاجر من مكة إلى المدينة بعد بيعة العقبة قد هاجر في أدقّ الأحوال وأشدها تعرّضا للخطر، وهاجر وهو لا يعرف ما قدر له بالمدينة. وقد كان بها في الفترة الأولى من مقامه موضع دسّ اليهود وعبثهم. فلما نصره الله وأذن أن يدخل الناس من أنحاء شبه الجزيرة في دين الله أفواجا، ازداد عمله وتضاعف مجهوده وظلّ تعهّد ذلك كله يقتضيه من بذل الجهود ما ينوء بالعصبة أولى القوة، وإن له- عليه الصلاة والسلام- في بعض الغزوات لمواقف تشيب من هولها الولدان. وأيّ موقف أشدّ هولا من موقفه يوم أحد حين ولى المسلمون، وسار وهو يصعد في الجبل ورجال قريش يشتدّون في تتبعه، ويرمونه حتى كسرت زباعيته! وأيّ موقف أشدّ هولا من موقفه يوم حنين حين ارتدّ المسلمون في عماية الصبح مولّين الأدبار، حتى قال أبو سفيان: إن البحر وحده هو الذي يردّهم، ومحمد واقف لا يرتد ولا يتراجع وينادي في المسلمين: إلى أين، إلى أين! إليّ، إليّ، حتى عادوا وحتى انتصروا!. والرسالة! والوحي! وهذا المجهود الروحي المضني في اتصاله بسرّ الكون وبالملأ الأعلى، هذا المجهود الذي روي بسببه عن النبيّ أنه قال: شيبتني هود وأخواتها! رأى أصحاب محمد هذا كله، ورأوه يحمل العبء صلبا قويّا لا يعرف المرض إليه طريقا. فإذا مرض من بعد ذلك، فمن حق أصحابه أن يخافوا وأن يتمهّلوا في السير من معسكرهم بالجرف إلى الشام، حتى تطمئن نفوسهم إلى ما يكون من أمر الله في نبيه ورسوله.
[خطاب النبي أهل المقابر]
وحادث وقع جعلهم أشد خوفا؛ فقد أرق محمد ليلة أوّل ما بدأ يشكو وطال أرقه، وحدّثته نفسه أن يخرج في ليل تلك الأيام، أيام الصيف الرقيقة النسيم، فيما حول المدينة، وخرج ولم يستصحب معه أحدا إلا مولاه أبا مويهبة. أفتدري أين ذهب؟ ذهب إلى بقيع الغرقد حيث مقابر المسلمين على مقربة من المدينة. فلمّا وقف بين المقابر قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس