هذا التقديس المرهب لما يعتقدونه كلمة الله. وفي القرآن نذر للذين يفترون على الله الكذب أو يخفون شيئا من وحيه. ولسنا نستطيع أن نصدّق أن يجرؤ المسلمون الأوّلون، في حماستهم الأولى لدينهم وتقديسهم إياه، على التفكير في أمر ذلك مبلغة من مجافاة الإيمان.
«ثانيا- تمّ الجمع خلال سنتين أو ثلاث سنين بعد وفاة محمد؛ وقد رأينا طائفة من أتباعه يحفظون الوحي كله عن ظهر قلب، وأن كل واحد من المسلمين كان يحفظ طائفة منه، وأن جماعة من القراء كانت تعيّنهم الدولة وتبعث بهم إلى أنحاء المملكة الإسلامية لإقامة الشعائر ولتفقيه الناس في الدين. من هؤلاء جميعا تكوّنت حلقة اتّصال بين ما تلا محمد من الوحي يوم تلاه وبين ما جمعه زيد. فالمسلمون لم يكونوا صادقي القصد في جمع القرآن كله في مصحف واحد فحسب، بل كانت لديهم كذلك كل الوسائل التي تكفل تحقيق هذا الغرض، وتكفل تحقيق ما اجتمع في الكتاب الذي وضع بين أيديهم بعد جمعه من دقّة وكمال.
«ثالثا- ولدينا ضمان أوفى للدقة والكمال. ذلك ما كان موجودا منذ حياة محمد من أجزاء القرآن المكتوبة، والتي كثر لا شك عدد نسخها قبل جمع القرآن. وأكثر الأمر أن هذه النسخ كانت موجودة في حيازة جميع الذين يستطيعون القراءة. أما ونحن نعرف أن ما جمعه زيد قد تداوله الناس وتلوه بعد جمعه مباشرة.
فمن المعقول أن نستنبط أنه تناول ما احتوته هذه الأجزاء المكتوبة جميعا واتفق معها؛ لذلك حلّ محلّها بإقرارهم جميعا. فلم يتصل بنا أن الجامعين أغفلوا أجزاء أو آيات أو ألفاظا، أو أن شيئا مما كان موجودا من هذه اختلف عما حواه المصحف الذي جمع. ولو أن شيئا من ذلك كان، للوحظ بلا ريب ولدوّن في هذه المساند القديمة التي احتوت أدقّ أعمال محمد وأقواله، والتي لم تغافل منها حتى ما كان قليل الخطر.
«رابعا- محتويات القرآن ونظامه تنطق في قوة بدقة جمعه؛ فقد ضمّت الأجزاء المختلفة بعضها إلى بعض ببساطة تامة لا تعمّل ولا فنّ فيها. وهذا الجمع لا أثر فيه ليد تحاول المهارة أو التنسيق. وهو يشهد بإيمان الجامع وإخلاصه لما يجمع، فهو لم يجرؤ على أكثر من تناول هذه الآيات المقدسة ووضع بعضها إلى جانب بعض.
«والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقا فحسب، بل كان، كما تدلّ الوقائع عليه، كاملا، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال أيّ من الوحي. ونستطيع كذلك أن نؤكد، استنادا إلى أقوى الأدلّة، أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد» .
أطلنا في اقتطاف عبارات «سيروليم موير» كما وردت في مقدمة كتابه «حياة محمد»«١» . على أن ما اقتطفناه يغنينا عن ذكر ما كتبه «الأب لامنس» و «هون هامر» ومن يرون هذا الرأي من المستشرقين. هؤلاء جميعا يقطعون بدقة القرآن الذي نتلوه اليوم، وبأنه يحتوي كل ما تلاه محمد على أنه الوحي الذي تلقاه من ربه صادقا كاملا. فإذا ذهبت بعد ذلك قلة من المستشرقين غير مذهبهم وزعموا القرآن حرّف، غير آبهين لهذه الأدلة العقلية التي ساقها «موير» وكثرة المستشرقين، والتي أخذوها عن التاريخ الإسلامي والعلماء المسلمين كان ذلك تجنيا على الإسلام لم يمله غير الحقد على الإسلام وعلى صاحب الرسالة الإسلامية. ومهما يبلغ المتجنون من البراعة في صياغة تجنّيهم فلن يستطيعوا أن يخلعوا عليه ثوب البحث العلمي النزيه، ولن يستطيعوا