طفولته وصباه وشبابه لم يجرّب عليه الكذب قط، حتى سمي الأمين ولمّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره.
وكان صدقه أمرا مسلما به عند الناس جميعا، حتى لقد سأل قريشا يوما بعد بعثه:«أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّقوني؟» فكان جوابهم: «نعم! أنت عندنا غير متّهم وما جرّبنا عليك كذبا قط» . فالرجل الذي عرف بالصدق في صلاته بالناس منذ نعومة أظفاره إلى كهلوته كيف يصدّق إنسان أنه يقول على ربّه ما لم يقل، ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه! هذا أمر مستحيل. يدرك استحالته الذين درسوا هذه النفوس القويّة الممتازة التي تعرف الصلابة في الحق ولا تداجي فيه لأيّ اعتبار. وكيف ترى يقول محمد: لو وضعت قريش الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر أو يموت دونه ما فعل، ثم يقول على الله ما لم يوح إليه، ويقوله لينقض به أساس الدّين الذي بعثه الله به هدى وبشرى للعالمين!
ومتى رجع إلى قريش ليمدح آلهتهم؟ بعد عشر سنوات أو نحوها من بعثه. وبعد أن احتمل هو وأصحابه في سبيل الرسالة من ألوان الأذى وصنوف التضحية ما احتمل، وبعد أن أعزّ الله الإسلام بحمزة وعمر، وبعد أن بدأ المسلمون يصبحون قوّة بمكة، ويمتدّ خبرهم إلى بلاد العرب كلها وإلى الحبشة، وإلى مختلف نواحي العالم. إن القول بذلك حديث خرافة وأكذوبة ممجوجة. ولقد شعر الذين اخترعوها بسهولة افتضاحها، فأرادوا سترها بقولهم: إن محمدا ما كاد يسمع كلام قريش إذ جعل لآلهتهم نصيبا في الشفاعة حتى كبر ذلك عليه. وحتى رجع إلى الله تائبا أوّل ما أمسى ببيته وجاءه جبريل فيه. لكن هذا السّتر أحرى أن يفضحها. فما دام الأمر قد كبر على محمد منذ سمع مقالة قريش، فما كان أحراه أن يراجع الوحي لساعته! وما كان أحراه أن يجري الوحي الصواب على لسانه؟ وإذا فلا أصل لمسألة الغرانيق إلا الوضع والاختراع. قامت بهما طائفة الذين أخذوا أنفسهم بالكيد للإسلام بعد انقضاء الصدر الأول.
وأعجب ما في جرأة هؤلاء المفترين أنهم عرضوا للافتراء في أمّ مسائل الإسلام جميعا: في التوحيد! في المسألة التي بعث محمد لتبليغها للناس منذ اللحظة الأولى، والتي لم يقبل فيها منذ تلك اللحظة هوادة، ولا أماله عنها ما عرضت عليه قريش أن يعطوه ما يشاء من المال أو يجعلوه ملكا عليهم. وعرضوا ذلك عليه حين لم يكن قد اتّبعه من أهل مكة إلا عدد يسير. وما كان أذى قريش لأصحابه ليجعله يرجع عن دعوة أمره ربه أن يبلغها للناس. فاختيار المفترين لهذه المسألة التي كانت صلابة محمد فيها غاية ما عرف عنه من الصلابة، يدلّ على جرأة غير معقولة، ويدلّ في الوقت نفسه على أن الذين مالوا إلى تصديقهم قد خدعوا فيما لا يجوز أن يخدع فيه أحد.
لا أصل إذا لمسألة الغرانيق على الإطلاق، ولا صلة البتة بينها وبين عودة المسلمين من الحبشة، إنما عادوا، كما قدّمنا، بعد أن أسلم عمر ونصر الإسلام بمثل الحميّة التي كان يحاربه من قبل بها، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين. وعادوا حين شبّت في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبّتها. فلما علمت قريش بعودتهم إزدادت مخاوفها أن يعظم أمر محمد بينهم، فأتمرت ما تصنع. وقد انتهت بوضع الصحيفة التي قرّروا فيها فيما قرروا ألا يناكحوا بني هاشم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، كما أجمعوا فيما بينهم أن يقتلوا محمدا إن استطاعوا.