حسن إدراك هذه الصلة الذاتية بالوجود وخالق الوجود في وحدته التي لا تتغيّر سننها ولا يعتبر للزمان أو المكان فيها إلا وجود نسبي لحياتنا القصيرة. وحياة محمد هي لا ريب خير مثل لدراسة هذه الصلة الذاتية دراسة علمية لمن أراد، ودراسة عملية لمن تؤهله مواهبه أن يحاول هذا الاتصال في مراتب أوّلية لبعد ما بينه وبين الصلة الإلهية التي أفاء الله على رسوله. وأكبر ظني أن هاتين الدراستين خليقتان، يوم يتاح لهما التوفيق، أن تنقذا عالمنا الحاضر من وثنية تورّط فيها على اختلاف عقائده الدينية أو العلمية؛ وثنيّة جعلت المال وحده معبودا، وسخّرت كل ما في الوجود من علم وفن وخلق ومواهب لعبادته والتسبيح بحمده. قد يكون هذا التوفيق ما يزال بعيدا.
لكن طلائع القضاء على هذه الوثنية التي تتحكم في عالمنا الحاضر، وتوجه الحضارة الحاكمة فيه، واضحة لكل من تتبّع سيرة العالم وأحداثه. فلعل هذه الطلائع تتواتر وتقوى دلالتها إذا انجلت أمام العلم تلك المسائل الروحية بالتخصص لدراسة حياة محمد النبي وتعاليمه وعصره والثورة الروحية التي انتشرت في العالم أثرا من آثاره. وإذا أتاحت الدراسة العلمية والدراسة الذاتية لقوى الإنسانية الكمينة مزيدا من اتصال بني الإنسان بحقيقة الكون العليا، كان ذلك الحجر الأوّل في أساس الحضارة الجديدة.
وهذا الكتاب ليس إلا محاولة بدائية في هذه السبيل كما قدّمت. وبحسبي أن يقنع هذا الكتاب الناس بما فيه، وأن يقنع العلماء والباحثين بضرورة الانقطاع والتخصص لبلوغ الغاية من بحث موضوعه. ولو أنه أثمر أيّا من هذين الأثرين أو كليهما، لكان ذلك أكبر جزاء أرجو عن المجهود الذي بذلت فيه. والله يجزي المحسنين.